فرصة السوريين التي لا تُعوّض

1 week ago 3
ARTICLE AD BOX

تنفّس السوريون الصعداء وهم يتابعون إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عن بلدهم من الرياض، بعد سنوات أنتجت فقراً ومآسي وأزماتٍ بلغت أوجها خلال العشرية الماضية. وأخيراً، تدخل سورية مرحلةً جديدةً من تاريخها، لا باعتبارها خصماً ودولةً داعمةً للإرهاب، وطرفاً في المحور المعادي للغرب، بل دولةً تعيد تشكيل مؤسّساتها على بنى سياسية واقتصادية جديدة، ونقيضة لاصطفاف النظام السوري السابق خلف "المعسكر الاشتراكي"، وبعد انهياره اختار أن يبقى في الجانب "المناهض للغرب". تحتاج سورية إعادة هيكلة اقتصادها، الذي كان مركزياً موجّهاً، ليصار توجيه بوصلته باتجاه الرأسمالي الليبرالي الغربي، ممّا يؤدّي إلى انفتاح البلاد أمام الاستثمارات والشراكات التي ستعيد بدورها إعمار بلد أنهكته الحروب، ومزّقته صراعات المحاور والأطراف الإقليمية. لكن، إلى أيّ حدٍّ سيتمكّن السوريون وحكومتهم الحالية، مع النقاط الحمراء كلّها بخصوص أعضائها، من انتهاز هذه الفرصة التاريخية، وعدم تفويتها؟ وأيّ تنازلات يمكن أن تكون الإدارة الجديدة قد قدّمتها في مقابل رفع العقوبات؟ وأيّ عقوبات يمكن (متى رفعتْ) أن تخفّف عن كاهل السوريين؟ وما مدى صلاحية الرئيس الأميركي في تنفيذ القرار الشفهي الذي اتخذه في المنتدى الاستثماري في الرياض؟... أسئلة كثيرة وملحّة تحتاج إلى إجابات أكثر من حاجتها إلى تحليلات، بعد أن يفيق السوريون من نشوة الفرح بذلك القرار في انتظار وضعه موضع التنفيذ.

وضعت الإدارة الأميركية حزمةً من الشروط على الحكومة السورية، التي تتزعّمها هيئة تحرير الشام المصنّفة في قائمة الإرهاب، مقابل رفع العقوبات، ولا يبدو أن واشنطن بصدد التخلّي عن تلك الشروط، أقله حالياً، بالرغم من إعلان ترامب المذكور آنفاً، لا سيّما لجهة المقاتلين الأجانب الذين يشكّلون عقبةً أمام انفتاح الحكومة السورية، وقبولها من الغرب، وهو ما أكّده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال اللقاء الذي جمعه مع رئيس المرحلة الانتقالية في سورية أحمد الشرع، الذي يحاول (كما بدا واضحاً) إرضاء الأطراف جميعاً، بمن فيهم المقاتلون الأجانب الذين قدّموا الدعم للثورة السورية، ملمّحاً إلى إمكانية منحهم الجنسية السورية، متّكئاً على بند في قانون الجنسية السوري الصادر عام 1969، ينصّ في المادة 6 على أنه يجوز منح الجنسية بمرسوم بناء على اقتراح وزير الداخلية "لمن أدّى للدولة أو الأمّة العربية خدمات جليلة". وبذلك يمكن للرئيس السوري أن يمارس صلاحياته القانونية والدستورية، ويضمن الإبقاء على المقاتلين الذين دعموه في حربه ضدّ نظام بشّار الأسد، ووقفوا إلى جانب الشعب السوري في ثورته. ولكن إلى أيّ مدىً يمكن أن تقبل أميركا والدول الأوروبية هذا الالتفاف؟... هذا ما يمكن للأيام، والأسابيع المقبلة، أن تكشفه.

تحتاج آليات الانتقال إلى نظام جديد مشاركة السوريين كلّهم، وإلا وقعت السلطات الجديدة في أخطاء النظام القديم الفاقد للشرعية

من جهة أخرى، يبدو أنّ قرار الرئيس ترامب رفع العقوبات عن سورية لا يمكن فصله عن النهج العام الذي سار عليه واعتمده، سواء في ولايته الأولى أو الثانية، من خلال التركيز في الجوانب الاقتصادية وإحلال السلام، الذي سينعكس إيجاباً على أيّ عقود أو شراكات يبرمها في المنطقة، فالرجل القادم من خلفية الأعمال الراغب في إعلاء شأن الولايات المتحدة الأميركية والرافع لشعار "أميركا أولاً"، لا يمكننا النظر إلى أيّ خطوة يتّخذها بمعزل عن تلك الخلفية، ولأن لسورية موقعها الجيوسياسي التاريخي كان لا بدّ من التعامل مع هذا الملفّ بحساسية، تجنّباً لإغضاب حلفائه الخليجيين، لا سيّما بعد توقيع اتفاقات تتجاوز قيمتها 600 مليار دولار مع السعودية، وإشادته بولي عهد السعودية، محمّد بن سلمان، ويبدو أنّ ترامب يعمل لتغيير نظرة العالم العربي إلى أميركا، وإزالة الإرث الذي ارتبط بالحروب مع الرؤساء السابقين، من جورج بوش الابن إلى باراك أوباما وحتى جو بايدن، ويعمد إلى إحلال السلام في المنطقة، وإن بالقوة، حسب تصريحاته. لذلك، تشكّل سورية بوابةً لتنفيذ تلك السياسة من خلال إتاحة الفرصة أمام الحكومة السورية لتبييض صفحتها أمام العالم، وبضمانة خليجية كما هو واضح، غير بعيدة عمّا يُحاك في الغرف المظلمة من احتمالات توقيع اتفاق مع إسرائيل، من شأنه أن ينهي عقوداً من الصراع ويحسم النزاع.

يشكّل قانون قيصر، الذي وافق عليه الكونغرس الأميركي بهدف حماية المدنيين عام 2019، واحداً من عدّة قرارات وقوانين فرضت بموجبها عقوبات على سورية، إذ يعود تاريخ العقوبات الأميركية على سورية إلى زمن أقدم بكثير من هذا القانون، الذي فرض عقوبات على الحكومة السورية شملت الرئيس المخلوع بشّار الأسد وأعضاء حكومته والمتعاملين معه من دول وأفراد، بسبب أعمال العنف والقتل التي مورست بحقّ المدنيين، وصنّفت جرائمَ حرب. تعود أولى العقوبات التي فرضت على سورية إلى عام 1979، حينها صنّف الكونغرس سورية دولةً داعمةً للإرهاب، تضمّنت تقييد المساعدات الأميركية وحظر بيع الأسلحة وقيوداً على تعامل البنوك الأميركية مع الحكومة السورية والكيانات التابعة لها. ولاحقاً، وُضع قانون محاسبة سورية وإعادة السيادة اللبنانية (2003)، ثمّ تجدّدت العقوبات الأميركية بعد عام 2011 بسبب قمع الاحتجاجات، لتشمل تجميد أصول وحظر تصدير النفط وغيرها من قيود مالية، لتبلغ ذروتها عام 2019 بقانون قيصر، الذي تسبّب بأكبر أزمة اقتصادية شهدتها البلاد عبر تاريخها.

العقوبات الأميركية المفروضة على سورية نوعان، عقوبات فرضت بموجب قوانين وافق عليها الكونغرس مثل قانون قيصر، وأخرى عبر أوامر تنفيذية يصدرها الرئيس الأميركي، والأخيرة يستطيع الرئيس إلغاءها من دون الرجوع إلى الكونغرس، وتشمل رفع الحظر عن الأصول المُجمَّدة، وتشمل أصولاً تعود للحكومة السورية، ويُستبعَد أن تطاول رموزَ النظام السابق، وأيضاً السماح بالتعاملات التجارية واستئناف تصدير المواد الأساسية غير العسكرية. أمّا تلك العقوبات المفروضة بموجب قوانين تحتاج لموافقة الكونغرس، وإصدار قوانين لرفعها مثل قانون قيصر، فهذه تتطلّب مناقشاتٍ مع رؤساء اللجان في مجلسَي الشيوخ والنواب، فضلاً عن تقديم تقارير دورية لبيان مدى التزام الحكومة السورية بالشروط التي قدّمتها الإدارة الأميركية، بما فيها وقف الانتهاكات ضدّ الأقليات، وتمثيل مكوّنات الشعب السوري كافّة في حكومة جامعة، وملفّ المقاتلين الأجانب، والأكثر أهميةً على ما يبدو العلاقة مع إسرائيل.

وضعت الإدارة الأميركية حزمةً من الشروط على الحكومة السورية، التي تتزعّمها هيئة تحرير الشام المصنّفة في قائمة الإرهاب، مقابل رفع العقوبات

لعبت عدة دول إقليمية دوراً فاعلاً وأساسياً في القرار الذي أعلنه الرئيس ترامب، لا سيّما السعودية، إذ طلب وليّ العهد محمّد بن سلمان من ترامب رفع العقوبات، بالإضافة إلى دعمٍ من تركيا وقطر، وهنا لا يمكن أن تغيب من الأذهان العوائد الاقتصادية لتلك الدول من قرار كهذا، إن لجهة دعم قطر حكومة دمشق في دفع رواتب موظّفيها أو تزويدها بالغاز والكهرباء، الأمر الذي يضع الحكومة السورية في "خانة اليك" لتنفيذ المطلوب منها والالتزام بتعهداتها، وعدم إحراج الدول الضامنة التي دعمت رفع العقوبات.

السوريون اليوم أمام مفترق مفصلي في تاريخ دولتهم التي تتعرّض لضغوط داخلية، لا تقلّ أهميةً عن الضغوط الخارجية، ولا يمكنها تجاهل ما يجري في الأرض من انتهاكات، وإن وصفتها بالفردية والأعمال غير المنضبطة، لكنّها ستشكّل عائقاً أمام أيّ خطوات ممكنة للمستثمرين ورجال الأعمال لإعادة الإعمار، يتوجّب عليها معالجتها لضمان بيئة استثمار آمنة. إنّ الانتقال من نظام حكم إلى آخر في أيّ مكان يعتبر ثورةً، أمّا في سورية فهو أكثر من ذلك، لأن عملية البناء هنا تبدأ من الصفر بكلّ معنى الكلمة. والحكومة الجديدة، برئاسة أحمد الشرع، حقّقت تقدّماً ملموساً في الدبلوماسية المكّوكية في الخارج، وضبط بيئة سياسية مستقرّة في الداخل. ولكن، ما زالت الآليات للانتقال من نظام إلى آخر غير واضحة، وتحتاج إلى مشاركة أطياف السوريين كلّهم، لا احتكاراً من السلطة الحالية، وإلا وقعت في أخطاء النظام القديم الذي لطالما افتقد شرعية السوريين. أخطار هذا النهج أنه يمكن أن يؤدّي، مع التهديدات الاقتصادية والاجتماعية الهائلة التي يواجهها السوريون بعد أكثر من عقد من الحرب، إلى فشل كامل لعملية الانتقال.

Read Entire Article