ARTICLE AD BOX
هناك تحول عالمي غير مسبوق لدى شعوب العالم لمساندة الشعب الفلسطيني في وجه حرب الإبادة والتطهير العرقي والتجويع التي يتعرض لها. ويؤدّي النهوض الشعبي الجاري إلى فرض ضغوط هائلة على برلمانات وحكومات الدول الغربية التي صمتت 19 شهراً على جرائم إسرائيل، وأغمضت أعينها عنها، بحجّة حقّ إسرائيل في الدفاع عن النفس، وبذريعة ما جرى في 7 أكتوبر (2023). ويعود الفضل في هذا التحول، أولاً وقبل كل عامل آخر، إلى صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته وبسالته، خصوصاً في قطاع غزّة، ورفضه رفع الراية البيضاء أو الاستسلام. لكن شيئاً لا يحدُث، كما قالت فرجينيا وولف، ما لم يتم وصفه. ولهذا كان دور الإعلام الشعبي، والمدني، والشبابي، عاملاً حاسماً في اختراق جدار التعتيم والصمت الذي اعتادت وسائل الإعلام الأجنبية الرسمية أن ترفعه لحجب الحقيقة كلما تعلق الأمر بإسرائيل والحركة الصهيونية وجرائمها. وصارت وسائل الاتصال الاجتماعي سلاحاً جباراً نقل المعاناة وشرح الجرائم، وأحرج العقول حتى أخرجها عن صمتهـا.
لم تتوقع الحكومة الفاشية الإسرائيلية أن ترى مائة ألف متظاهر يجوبون العاصمة الهولندية في أكبر مظاهرة في تاريخ ذلك البلد منذ عام 1982. ولم يستطيعوا تجاهل خروج 600 ألف في مظاهرة هي الأكبر في لندن ضد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، ومثلها مظاهرات عديدة في العواصم الأوروبية.
ولم يتوقع حتى المناصرون للشعب الفلسطيني أن يمرّر القادة الأوروبيون قراراً بمراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية، وتحديداً البند الثاني في الاتفاقية، الخاص بحقوق الإنسان، وقد حظي القرار بتصويت 17 دولة من أصل 27.
لم يتوقّع حتى المناصرون للشعب الفلسطيني أن يمرّر القادة الأوروبيون قراراً بمراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية
وحتى ألمانيا التي دعمت، مثل بريطانيا، حرب الإبادة بالأسلحة والقذائف والسفن والطائرات اضطرت أن تلوح بوقف إمداد إسرائيل بالسلاح، بعد أن كان مجرّد انتقاد إسرائيل من المحرّمات، وبعد أن حاصرت حكوماتها بالقمع مظاهرات التأييد للشعب الفلسطيني. وقد تصدّر رئيس االوزراء والبرلمان الإسبانيان مشهد التضامن الإنساني بقرار قطع العلاقات التجارية مع إسرائيل، وتحريم نقل السلاح إلى إسرائيل عبر الموانئ والأجواء الإسبانية. وتقود فرنسا حراكاً قد يشمل عشر دول بما فيها بريطانيا وكندا للاعتراف بفلسطين.
وتصر الحركات الطلابية وعدة جامعات أميركية على تحدي ضغوط ترامب وعقوباته التي وصلت إلى حد اصطدامه بجامعة هارفارد التي تعتبر أيقونة الجامعات الأميركية وأكثرها شهرة. وتتعاظم عبر الكرة الأرضية فعاليات التضامن مع غزّة وفلسطين، من أميركا اللاتينية إلى كندا وأوروبا وأستراليا إلى جانب موقف الصين بكل ثقلها الاقتصادي والسياسي.
ولم تتوقع إسرائيل أن تبادر 22 دولة، بما فيها اليابان وأستراليا، و16 دولة أوروبية إلى الاحتجاج على الحصار الذي تفرضه إسرائيل على دخول المساعدات الإنسانية، ورفض الترتيبات الأميركية - الإسرائيلية لإنشاء مراكز توزيع تهين الكرامة الإنسانية، وتساعد نتنياهو وحكومته على تنفيذ جريمة ترحيل سكّان شمال غزّة ووسطها إلى الجنوب، لحشرهم في معسكر اعتقال، تمهيداً لتنفيذ التطهير العرقي بطردهم إلى خارج فلسطين. وتتعاظم كل يوم لائحة الفنانين والكتاب والمفكّرين العالميين الذين يعلنون إدانتهم للجرائم الإسرائيلية وتضامنهم مع الشعب الفلسطيني. وأيرلندا على وشك إصدار قانون يحرّم التعاطي ليس فقط مع منتجات المستعمرات الاستيطانية الإسرائيلية، بل مع كل الشركات التي تتعامل معها.
لم تتوقع إسرائيل أن تبادر 22 دولة، بما فيها اليابان وأستراليا، و16 دولة أوروبية إلى الاحتجاج على الحصار الذي تفرضه إسرائيل على دخول المساعدات الإنسانية
ولعل أهم ما يميز تسونامي التضامن الذي انفجر في العالم أنه يتحول إلى طوفان حقيقي من العقوبات على الكيان الإسرائيلي. وربما يمكن القول بثقة، إن طوفان التضامن العالمي، الذي تقوده الشعوب، يشابه ما جرى ضد نظام الأبارتهايد (التمييز العنصري) في جنوب أفريقيا، والثورة العالمية ضد الحرب العدوانية على فيتنام في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، وإنْ ما زال في حاجة إلى مزيد من الانتشار والتوسع.
وعندما يخرج وزير جيش الاحتلال، العنصري كاتس ليقول إن اعترافات فرنسا وغيرها بدولة فلسطين ستكون أوراقاً هشة مصيرها سلة المهملات، في حين ترسّخ إسرائيل على أرض الواقع الاستعمار الإحلالي الاستيطاني للضفة الغربية، فإنه كمن يصبّ الزيت على نار عزلة إسرائيل المتعاظمة. وعندما يعلن وزير المالية الإسرائيلي، المستوطن الفاشي سموتريتش، ووزير خارجية الاحتلال، ساعر، نيتهم الرد على الاعتراف بفلسطين بارتكاب جريمة حرب جديدة، بفرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، أي ضمّها، فإنهم يسحبون البساط من تحت أقدام المدافعين عن إسرائيل والداعين إلى تجنّب فرض العقوبات عليها. ولذلك يخرج رئيس حزب الديمقراطيين الإسرائيلي الذي كان يوماً نائباً لرئيس أركان جيش الاحتلال، ومشاركاً في جرائم الحرب على غزّة عام 2014، ليقول إن نتنياهو يجعل من إسرائيل كياناً منبوذاً، ليرد عليه قادة الحكومة وأحزاب المعارضة بوسمه باللاسامية، في ما يمثل انحطاطاً غير مسبوق للمنطق والعقل الإسرائيلي.
يمثّل كل هذا النهوض العالمي غير المسبوق فرصة لا تعوّض للشعب الفلسطيني يجب اغتنامها. ولكن ذلك مشروط بثلاثة أمور: أولاً توحيد الجهود الفلسطينية وتخلي السلطة الفلسطينية عن أوهام الحل الوسط مع الحركة الصهيونية، والقبول ليس فقط بتنفيذ إعلان بكين، بل بتشكيل قيادة وطنية فلسطينية موحّدة على استراتيجية كفاحية مقاومة للمشروع الصهيوني والاستعمار الإحلالي الاستيطاني. وثانياً، تعزيز تنظيم الطاقات والقوى الفلسطينية وتطويرهما على امتداد المعمورة بالتعاون الوثيق مع حركات التضامن ونشطاء المقاطعة. وثالثاً، التعاون مع قوى التضامن واحترام خصوصيتها ومواقفها في كل بلد، وتجنب محاولة الإملاء عليها أو التحكم فيها.
يجب العمل على حماية حركات التضامن الدولية وتطويرها، والتقاط هذه الفرصة التي لا تعوّض لعزل الفاشية الإسرائيلية ومجرمي الحرب
ويبقى السؤال الأكبر، ماذا ستكون عليه مواقف الدول العربية والإسلامية مما يجري؟ وقد تحدّت إسرائيل هذه الدول ثلاث مرات في أقل من أسبوع. أولاً، بالاعتداء والتطاول على المسجد الأقصى وأداء الصلوات اليهودية فيه بقيادة الوزراء وأعضاء الكنيست الإسرائيليين، والتلويح ببناء الهيكل المزعوم على أرضه. وثانياً، إعلان إنشاء 22 مستعمرة استيطانية جديدة ونيّات ضم وتهويد الضفة الغربية، وتحطيم كل ما تبقى من صلاحيات للسلطة الفلسطينية. وثالثاً، محاولة إسرائيل إهانة الدول العربية ومنع وزراء الخارجية العرب من القدوم إلى رام الله والتقاء قيادة السلطة الفلسطينية، إذا صدقت الأنباء في هذا الشأن.
ومع استمرار حرب الإبادة ونيات التطهير العرقي، وتعاظم الاستيطان اليهودي ليس أمام الدول العربية، التي لا يطالبها أحد بإرسال جيوشها لمحاربة إسرائيل، إلا فرض المقاطعة الشاملة والعقوبات على إسرائيل، وأن يلغي من أقدموا على التطبيع مع إسرائيل ذلك التطبيع، وإلا فسيتهمون بالتواطؤ مع جرائم الحرب ضد الشعب الفلسطيني.
احتراماً للتضحيات العظيمة التي قدمها الشعب الفلسطيني خاصة سكان غزة الباسلة، ومخيمات جنين وطولكرم ونور شمس، يجب العمل على حماية حركات التضامن الدولية وتطويرها، والتقاط هذه الفرصة التي لا تعوّض لعزل الفاشية الإسرائيلية ومجرمي الحرب، وإفشال مخططاتهم، لأن تغيير موازين القوى يعتمد أساساً على عاملين: صمود الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، وتعاظم حركة المقاطعة وفرض العقوبات على الاحتلال.
