ARTICLE AD BOX
قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب رفع العقوبات عن سورية تاريخي بامتياز. إنّه إعادة تموضع لسورية داخل العالم. وسيتطلب هذا بشأن تلك العقوبات التي بدأت في 1979 بعض الوقت، فهناك ما سيُتخلّص منها بقرار تنفيذي من ترامب، وهناك ما تحتاج قراراً من الكونغرس، وثمّة ما ستتم عبر مجلس الأمن، وتتطلّب إجماعاً دولياً. وسيعني هذا الرفع أن سورية لم تعد بلداً معزولاً بقوّة القرارات الأميركية والدولية. وبالتالي، سيقع على الإدارة في دمشق، وحكومتها، والفاعلين فيها كافّة، التقدّم بسياساتٍ جديدة، تُؤمّن بيئةً آمنة للاستثمار الخارجي، ولأفضل أشكال التواصل مع الرأسمال العالمي، وكذلك تثبيت حالة من الاستقرار الأمني وتوحيد البلاد وإشراك الفاعلين السوريين جميعهم في النهوض بالدولة، وإيقاف سياسات الاستئثار التي رافقت خطوات المرحلة الانتقالية: الحوار الوطني، وتعيين الرئيس من الفصائل في مؤتمر النصر، والإعلان الدستوري، والحكومتان، المؤقّتة والانتقالية.
الشرط العام لإقامة علاقات سليمة مع العالم (هناك شروط دولية أميركية وسواها) يبدأ من البوابة الداخلية، من تحقيق مطالب الشعب في الانتقال الديمقراطي، والتشدّد ضدّ الفصائل السلفية أو الجهادية أو أيّ فصائل تَرفض الإقرار بوحدة سورية، وتوحيد السلاح. وهذا يتطلّب سياسةً وطنيةً جامعةً، تنطلق من فتح حوار وطني حقيقي مع السوريين، للوصول إلى الشكل الأفضل، ونقصد الواقعي، للنهوض بالدولة. وبالتالي، المدخل نحو الاستقرار الحقيقي والثقة الخارجية بالإدارة الجديدة يكون عبر إعلان (مجدّداً) عقد مؤتمر وطني عام، والتجهيز له، تشارك فيه شخصيات وطنية معروفة بنزاهتها وفهمها العميق لتمايزات الشعب السوري، من وجوهها كافّة، وليس الدينية والقومية فقط.
هل هذا ممكن؟... يبدو أن الإدارة لا تفكّر به، ولا يبدو أن الشعب بقواه السياسية وسواها قادر عليه. إذاً ما الممكن؟... لدينا حالياً هدف أمام الشرع وإدارته هو تشكيل مجلس تشريعي. آليات تشكيله ستكون مراقبةً من الدول التي ضمنت تموضع الرئيس السوري أحمد الشرع وإدارته في إطار البدء بسياسات جديدة، تُراعي مطالب الخارج والداخل، ونقصد السعودية وتركيا وقطر بصورة خاصّة. الابتعاد عن الاستئثار في تشكيل المجلس، بأن يتخلّى الشرع عن حصّة الثلث وأن تختار لجان يُشكّلها الشرع الثلثين الباقيين (وفقاً للإعلان الدستوري)، ليُنتخب المجلس فعلياً من الشعب، ستكون المدخل للمجلس التشريعي، وبإعطائه صلاحيات كاملة لنقاش القضايا السورية، وأن يكون له كامل الصلاحيات الرقابية على مؤسّسات الدولة، وأن تُقرّ القوانين عبره. وهنا، من الضرورة بمكان إعادة النظر في الإعلان الدستوري، وفصل السلطات بالفعل، والاتجاه نحو تبنّي نظام متعدّد، رئاسي وبرلماني.
ما لا يجوز توهمه أن البدء برفع العقوبات هو إعطاء شرعية كاملة للسلطة، أو اعتقاد الأخيرة أنها أصبحت مطلقة اليدين بأن تفعل ما تشاء في سورية
لا يعني البدء برفع العقوبات (سيأخذ وقتاً) أبداً طيِّ الشروط الأميركية، وكانت 12 شرطاً، ثمّ تحدّدت بشكل جازم مع ترامب في السعودية، وأكّدتها من جديد تصريحات البيت الأبيض في واشنطن، وتتحدّد بطرد المقاتلين الأجانب من أيّ مناصب سيادية في الجيش والأمن خاصّة، وأن تتجه الإدارة نحو التطبيع مع الدولة الصهيونية، وأن يتاح المجال للتحالف الدولي، وأن تتعاون إدارة دمشق بذلك في ملاحقة المجموعات الإرهابية في سورية، ومن دون قيود. وهناك شروط تتعلّق بإعادة تشكيل حكومة وطنية جامعة، وبغضّ النظر عن الدين والقومية.
كانت إدارة دمشق الجديدة واعية لحساسية الموقف من الدولة الصهيونية، ورغم تدمير الأخيرة البنية التحتية العسكرية السورية بشكل شبه كامل، والتقدّم بعد خطّ فكّ الاشتباك (1974)، وفرضها ما يشبه منطقةً آمنةً في كامل غرب دمشق وجنوبها، ظلت مواقف الإدارة ليّنةً وهادئةً، وبما لا يتناسب مع هذه الاعتداءات كلّها. موقفها هذا بدأ من 8 ديسمبر/ كانون الأول، ولم يتغيّر مع إعلان أحمد الشرع في الرياض بأنه ليس ضدّ اتفاقات إبراهام، وأكّد تمسّكه باتفاق فكّ الاشتباك، ولكن لم يطرح استعادة الجولان، وهذا يفتح على ضرورة نقاش هذه المسألة في البرلمان المقبل، والنقاش حقّ للسوريين، ليقرّروا مصير مناطق محتلّة من أراضيهم.
لن تأتي الاستثمارات بمجرّد البدء برفع العقوبات. وبالتأكيد، ستكون هناك مبالغ مالية من قطر والسعودية، وربّما من الإمارات، لتثبيت السلطة، ولمنع تأزّم المشكلات اليومية لأغلبية المواطنين، ولتمكين الإدارة وحكومتها من وضع الخطط وإعادة تشكيل المؤسّسات وتطويرها، وإيجاد بيئة قانونية وأمنية لتهيئة الوضع السوري لاستقبال الاستثمارات. ما لا يجوز توهمه أن البدء برفع العقوبات هو إعطاء شرعية كاملة للسلطة، أو اعتقاد الأخيرة أنها أصبحت مطلقة اليدين بأن تفعل ما تشاء في سورية. هذا وهم. إن رفع العقوبات جاء بدعمٍ إقليميٍّ واسع، وبقصد تثبيت الاستقرار في المنطقة، وبرضىً صهيوني بقدر ما، وأعلن ذلك وزير خارجية دولة الاحتلال: "نريد علاقات جيّدة مع الحكومة السورية"، وكذلك مقابل تنفيذ مطالب أميركا كاملة، ومنها تشكيل حكومة جامعة جديدة.
قدرة الإدارة السورية على تلبية الشروط الخارجية تتطلّب إحداث تغيير أساس في السلطة
سورية في أمسّ الحاجة لمتابعة رفع العقوبات، ومن سيطابق الأقوال مع الأفعال هو إدارة الشرع. إذاً هذه الإدارة تحت المراقبة الدولية والإقليمية بصفة خاصّة. وقدرة الإدارة على تلبية الشروط الخارجية تتطلّب إحداث تغيير أساس في السلطة. وقد أشير أعلاه إلى المجلس التشريعي، وإلى ضرورة إحداث تغييرات في الإعلان الدستوري وتشكيل حكومة جديدة. ولكن هناك قضايا حسّاسة أخرى، وتتعلّق حصراً بالجيش وجهاز الأمن العام، وهناك تصنيف هيئة تحرير الشام، ومنها قادة في الدولة، إرهابيين. تسليم إعادة تشكيل الجيش لضبّاطٍ منشقّين عن النظام السابق، وإبعاد الأجانب منه، وإلغاء الدورة الشرعية للمنتسبين إليه، وفتح المجال للسوريين كافّة للانضمام، شروط أساسية، تنطبق أيضاً على أجهزة الأمن العام والاستخبارات والشرطة كذلك، وهذا سيردم الأساس الذي تستند إليه كلّ من قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وفصائل السويداء، وكذلك الفصائل الجهادية والسلفية، وجدير بالملاحظة أن المنحة القطرية السابقة للبدء برفع العقوبات كانت تستثني الجيش والأمن.
إيجاد بيئة آمنة للاستثمار، وأمنية مستقرة، يتطلّب استقلال القضاء، وإتاحة أوسع أشكال الحرّيات العامّة، وإطلاق بيانات شفّافة في كلّ ما يتعلّق بالمؤسّسات التي تتشكل حديثاً. هذا أولاً، وثانياً، هناك ضرورة للاستعانة بخبراء ذوي كفاءة ووطنيين بشكل خاص، يُكلَّفون وضع خطّة وطنية لكيفية النهوض بالدولة، في المجالات كافّة، في شكل النظام السياسي وشكل الاقتصاد وقوانين الاستثمار والتعليم والثقافة والقوميات والأديان والعدالة الانتقالية. ربّما يكون وضع هذه الخطّة أكثر عمل أهميةً يقع على إدارة الشرع، وإكمالاً للفكرة أعلاه، تُعدّ مسألة المشاركة السياسية واحدةً من أكثر القضايا أهميةً، وهي ستسمح بتأمين شرعية حقيقية للإدارة ولخطواتها السياسية، فهل تعي جيّداً هذه الإدارة حساسية الوضع السوري بأكمله؟
