قانون الشراء العام في لبنان: فرصة إصلاحية للبلديات أم عبء إضافي؟

10 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

تجرى الانتخابات البلدية في لبنان حاليًا بعد سنوات من التأجيل والتعطيل، وسط آمال بأن تفتح هذه المحطة الانتخابية الباب أمام تجديد الحياة الديمقراطية المحلية وتعزيز المساءلة الشعبية في إدارة الشأن العام. وتأتي هذه الانتخابات في توقيت حساس، إذ تواجه البلديات تحديات متراكمة تفاقمت بفعل الانهيار الاقتصادي، وفي طليعتها ضيق الموارد وغياب الدعم المؤسسي المنتظم. في هذا السياق، برز قانون الشراء العام رقم 244/2021 خطوةً إصلاحيةً مفصليةً تهدف إلى تنظيم الإنفاق العام، والحد من الهدر والفساد، وتحقيق فاعلية أكبر في إدارة المال العام.

ورغم أن القانون يشمل جميع الجهات العامة من وزارات ومؤسسات وهيئات، فإن تأثيره على البلديات يبدو الأكثر حساسية، خصوصاً أن البلديات تُعد حجر الزاوية في الإنفاق المحلي، لا سيما في مجالات البنية التحتية والخدمات الأساسية. فهل تشكّل الانتخابات الجارية فرصة حقيقية لإعادة تفعيل دور البلديات في ظل هذا القانون، أم أن قانون الشراء العام سيبقى عبئًا إضافيًا على مؤسسات محلية تئن تحت وطأة ضعف الموارد والقدرات؟

البلديات: لاعب محوري بموارد محدودة

اقتصادياً، تشكّل البلديات لاعباً محورياً في التنمية المحلية. ويبلغ عدد البلديات في لبنان نحو 1,064 بلدية موزعة على مختلف المناطق، إلا أن أداء معظمها لطالما تأثر بضعف في التخطيط، وغياب الشفافية، واعتماد شبه كامل على موارد غير منتظمة من الدولة، وعلى رأسها عائدات الصندوق البلدي المستقل.

وبحسب المرسوم رقم 14492 الصادر عام 2024، فإن حوالى 50% من البلديات، أي نحو 529 بلدية، تتلقى أقل من 250 مليون ليرة لبنانية سنويًا من هذا الصندوق، وهو مبلغ بالكاد يكفي لتغطية النفقات التشغيلية الأساسية. في الجنوب، من أصل 153 بلدية، هناك 89 بلدية تقل عائداتها عن هذا الحد، وفي النبطية الوضع مماثل مع 35 بلدية من أصل 119. هذا الواقع المالي يضع البلديات في موقع هشّ يجعلها عرضة لأي تغيير في التشريعات أو في متطلبات الإدارة العامة.

قانون الشراء العام: فرصة للحوكمة أم عبء إداري؟

في هذا السياق، يوفّر قانون الشراء العام فرصة لإعادة هيكلة الإنفاق البلدي نحو مزيد من الكفاءة والشفافية. فبموجب القانون، أصبحت جميع الجهات العامة، بما فيها البلديات، مطالبة بنشر دفاتر الشروط والإعلانات عبر المنصة الوطنية للمشتريات العامة، ما يفتح المجال للمنافسة ويحد من الزبائنية والمحسوبيات التي لطالما سادت في إدارة المشاريع المحلية.
من ناحية أخرى، فإن إدخال عنصر التنافس العادل يمكن أن يؤدي إلى خفض الكلفة العامة للمشاريع بنسبة تتراوح بين 10% و20%، بحسب تقديرات الهيئة الناظمة للشراء العام.

فعلى سبيل المثال، إذا اعتُبر أن الإنفاق العام السنوي الخاضع لهذا القانون بلغ حوالى 1.7 مليار دولار في عام 2023، فإن الوفورات الممكنة قد تصل إلى 170–340 مليون دولار سنويًا. وقسم كبير من هذه الوفورات يتحقق على مستوى المشاريع البلدية الصغيرة، التي تُنفّذ بأعداد كبيرة في مختلف المناطق.

التحديات: نقص الكفاءات، التمويل، والبنية التحتية

لكن الواقع لا يخلو من التحديات. فالعديد من البلديات، خاصة في ضواحي بيروت والمناطق الجبلية والحدودية، لا تملك الكفاءات الفنية أو الخبرات القانونية اللازمة لتطبيق القانون بالشكل المطلوب. وأظهرت دراسة أعدّتها "الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية" عام 2023 أن أكثر من 70% من البلديات تفتقر إلى القدرة على إعداد دفاتر شروط متوافقة مع المعايير القانونية، أو حتى إلى المهارات التقنية للتعامل مع المنصة الإلكترونية للشراء العام.

والأصعب من ذلك هو العبء المالي المترتب على البلديات الفقيرة للتكيّف مع متطلبات القانون، لا سيما في ظل انهيار القدرة الشرائية وغياب التمويل المركزي المنتظم. في بعض الحالات، يُفرغ هذا الواقع القانون من مضمونه، إذ تضطر البلديات إلى اعتماد صيغ ملتوية للالتفاف على المهل والإجراءات، أو تؤخّر تنفيذ المشاريع بسبب التعقيدات الإدارية الجديدة.

دور منظمات الدعم: جهود واعدة لكنها غير كافية

لمواجهة هذه التحديات، تدخلت بعض المنظمات الدولية والجهات المانحة لدعم البلديات في تطبيق قانون الشراء العام. فقد أطلق برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) بالشراكة مع وزارة الداخلية والبلديات برامج تدريب متخصصة لتأهيل موظفي البلديات على استخدام المنصة الوطنية وإعداد دفاتر الشروط. كما قدّمت الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ) والاتحاد الأوروبي مساعدات تقنية ودورات تدريبية، واستُحدثت وحدات استشارية في بعض الاتحادات البلدية لتقديم الدعم الفني.

إلى جانب ذلك، بدأت بعض منظمات المجتمع المدني بتنظيم ورش عمل توعوية حول أهمية الشفافية في الصفقات العمومية. غير أن هذه المبادرات، رغم أهميتها، لا تزال محدودة النطاق وغير قادرة على الوصول إلى كل البلديات، ما يستدعي وضع خطة وطنية شاملة وممولة لتأهيل البلديات كافة وتسهيل امتثالها لمتطلبات القانون.

في ظل عودة المجالس المنتخبة: فرصة لتعزيز المحاسبة

يتزامن تطبيق قانون الشراء العام مع انطلاق الانتخابات البلدية بعد تأجيلات متكررة، ما يعيد الأمل بإحياء الحياة الديمقراطية المحلية وتعزيز آليات المساءلة والمحاسبة. فمع انتخاب مجالس بلدية جديدة، يُفترض أن تتعزز شرعية اتخاذ القرار داخل البلديات، وتُستعاد الرقابة الشعبية على إدارة المال العام، خصوصاً في ظل المتطلبات الصارمة التي يفرضها القانون.

لكن هذه العودة، رغم أهميتها، لا تمحو آثار المرحلة السابقة التي اتّسمت بإدارة مؤقتة من قبل لجان أو عبر القائمقام والمحافظ، وهو ما أضعف الشفافية وتسبّب في بطء تطبيق القانون. لذلك، تمثل المجالس الجديدة فرصة مفصلية لإرساء ثقافة الحوكمة الرشيدة وتعزيز فعالية تطبيق قانون الشراء العام، شرط أن تُرفق بدعم فني ومؤسساتي فعلي يُمكّنها من أداء دورها الرقابي والتنموي بفاعلية.

لتفادي فشل القانون وتحويله من فرصة إلى عبء، لا بد من تفعيل منظومة دعم شاملة للبلديات تشمل: تخصيص صندوق تمويلي وتقني خاص لدعم البلديات الفقيرة؛ تبسيط المنصة الإلكترونية لتناسب المستخدمين غير المتخصصين؛ إنشاء مراكز دعم إقليمي تابعة للهيئة الناظمة لتقديم استشارات مباشرة؛ توسيع برامج التدريب بالشراكة مع منظمات المجتمع المدني والجهات المانحة؛ وتفعيل دور الهيئة الناظمة عبر تأمين الموارد البشرية والمالية اللازمة لها لتأدية دور رقابي فعال.

لذلك، يشكّل قانون الشراء العام فرصة حقيقية لإصلاح آلية الإنفاق المحلي، وتعزيز الشفافية والعدالة بين البلديات، وخلق دينامية اقتصادية مستدامة. غير أن نجاحه يبقى مرهونًا بمدى توفّر الإرادة السياسية، والدعم الفني والمالي، لضمان مساءلة ديمقراطية محلية تؤمّن حسن تطبيق القانون وتمنع تحوّله إلى عبء إداري إضافي يُفرغ الإصلاح من مضمونه.

Read Entire Article