ARTICLE AD BOX
طالب عبد العزيز
نقابياً، لا تشبه المجموعة المثقفة(شعراء، كتاب، فنانون..)أيَّ مجموعة نقابية أخرى، فهي لا تشترط على المتقدم للإنتماء لها حصوله على شهادة جامعية مثلاً، كما هو الحال في نقابة الأطباء والمهندسين والمحامين والاقتصاديين وغيرهم، لذا كان الانتماء لها يسيراً؛ لا يستدعي أكثر من تقديم كتاب مطبوع، في الشعر أو الرواية، أغنية، لوحة فنية، قطعة موسيقية، عمل مسرحي، فيلم سينمائي... الخ وهنا يكمن الخلل في القبول والرفض، بعيداً عن القيمة الفنية والاهمية الثقافية، بما ينتج عن ذلك من زيادة مهولة في عدد الأعضاء، الأمر الذي جرى وما زال يجري بحسب الاهواء، والميول السياسية ، والحاجة الى الأصوات الانتخابية.
يحقُّ للطبيب والمهندس والمحامي وغيرهم الانتساب الى أيِّ نقابة، أو إتحاد، أو جمعية في الثقافة، ضمن الشروط تلك، فيما لا يحق لأيٍّ كان من خارج حقول الطب والهندسة والمحاماة وو الانتساب لهم، فهم جماعات ودوائر محكمة ومغلقة، فيما أبواب الثقافة مشرعة للجميع، غير موصودة بوجه أحد، وهكذا اتسعت رقعة الثقافة عددياً، على حساب الجدة والفاعلية والاهمية والحضور المؤثر. هذه(الديمقراطية) أو فسحة القبول جعلت من الثقافة منزلة دنيا في الحياة، لأنها منحت الكثير من أنصاف المثقفين، والطارئين، والنفعيين، والموهومين ثقافياً حقَّ الوصول الى هيئاتها التنظيمية والقيادية العليا، وبذلك خسرت الثقافة جوهرها، وأحقيتها في تمثيل وتوجيه المجتمع، بوصفها النتاج الطبيعي لكلِّ نظام حقيقي، رأس ماله المعرفة والتحضر.
مؤسفٌ ألّا يُنظر للأديب والمثقف بعامة إلا بعين الحاجة، والعطف، والتطبيب، والتشييع الرسمي. لا يدخلُ إحتفاءُ المؤسسات به (ميتاً) في قاعدة الاخلاق، أبداً، هذه ممارسات لا تنتمي الى الثقافة بشيء، وهي عواطف زائفة، إن لم تكن من أسوأ ما يقدّم له. كان تولستوي ضابطاً في الجيش القيصري، كثير الحروب آنذاك، لذا، تم استقدامه من الخطوط الامامية الى المدينة قبل أن يكتب رائعته(الحرب والسلام). تكريم الثقافة لا يعني أن تمنح المثقف 848 ألف دينار نهاية كل سنة! تكريم الثقافة هو جعلها بمتناول الناس، وتقديمها على باقي الترهات، والتفاهات التي تعبث بروح المجتمع، تحت غطاء السياسة والدين والطوائف والمذاهب. ترهل الجمعيات والاتحادات والنقابات الثقافية ووجود الطارئين على رأسها جعل الثقافة في اسفل سلّم أولويات الدولة العراقية.
تتخلف المجتمعات، وتسوء أحوال المدن، ويخرّب الاقتصاد، ويشيع الفساد، ويحدث أكثر من هذا وذاك في أيِّ بلاد إذا أُبعدَ المثقف عن المشاركة في رسم خطط وفكر الدولة، ويحدث الانهيار، والنهايات السيئة المحتومة إذا اقتفت الدولة آثار الفاعلين الشعبويين، وعملت على وفق مشيئتهم. ما يحدث لحياتنا من تخريب وعلى الصعد كلها، ممثلاً في توقف عجلة النمو، وتراجع في الخدمات، وتخريب في الاقتصاد نتيجة حتمية ليقين القاعدة العريضة من الناس بأنَّ ما يحدث لبلادنا إنما هو حاصلٌ بمشيئة فوقية لا أكثر، أو أنَّها عقوبات سماوية، نستحقها بسبب ابتعادنا عن هذه وتلك من العبادات والمعاملات، وهذا ما يسوّق له أدعياءُ التدين. الثقافة الحقة هي التي تقف بوجه هذا الاعتقاد، والمثقف الحقيقي هو الذي يؤشر ذلك، ويتصدى له، ويدعو لتغيير السياسات الشعبوية الحاكمة.
The post قناطر: شعبوية الحكم وجوهر الثقافة appeared first on جريدة المدى.