قيراط فعل أغلى من فدان كلام في قمة عربية

5 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

يؤكّد كل ما يجري في غزّة وخارجها أننا بصدد التنفيذ الفعلي لخطة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لإفراغها من أهلها وتحويلها إلى قطعة أرض فضاء، تصلح لأن يقيم عليها مشروعه، إذ عادت معدّلات القتل اليومي تصل إلى مستويات الجنون الإجرامي التي كانت في العام الأول من العدوان الصهيوني. منذ حطّت طائرة ترامب في الخليج، والتوّحش الإسرائيلي أضعاف ما كان عليه قبل شهرين. ومنذ صارت الطائرة في طريق العودة إلى واشنطن، محمّلة باتفاقات الأربعة تريليونات دولار، وكل يوم يقرّبنا من حالة "المنطقة الحرّة" التي يريدها "تاجر البندقية الأميركي" لغزّة، وسط شلل عربي متواطئ، يبلغ أضعاف ما كان عليه الشلل والتواطؤ قبل شهور، لا يصلح للتغطية عليهما هذا النزق الخطابي الذي عبّر عن نفسه في قمّة بغداد أخيراً، والتي امتنع عن حضورها معظم القادة العرب، ولسان حال كل منهم يقول"لست من العرب لكني أحترمهم".

ليس المطلوب من أصحاب الفخامة والسمو والجلالة الحكّام العرب أن يكونوا متفوّقين في امتلاك أدوات الخطابة والفصاحة أمام مؤتمراتهم المملّة التي تسمّى "القمّة العربية"، وليس المنتظر منهم منافسة المحللين والمعلقين في وصف المأساة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في غزّة بفعل جرائم الاحتلال الصهيوني منذ عامين تقريباً... هم ليسوا تلامذة في مسابقة خطابة مدرسية، وليسوا طلبة دراسات عليا في العلوم السياسية، حتى يتباروا في مضغ عبارات من نوعية "لا سلام في المنطقة من دون حلّ القضية الفلسطينية"، أو "لا نجاح للتطبيع ما لم تقم دولة فلسطينية"، هذا كله من المحفوظات المعلّبة التي تستهلك منذ "كامب ديفيد" الأولى.

وظيفة الحاكم أو المسؤول هي اتخاذ القرارات وتنفيذ الإجراءات، وظيفتهم الأفعال، أما الهتاف فيستطيع أن يقوم به الجمهور على نحو أكثر صدقاً واحتراماً. ويمكن للمحللين والكتّاب والمعلقين أن يؤدّوا مهمة التنظير على الوجه الأفضل،... فليكفّ الحكّام عن الهرب من المسؤولية، والاختباء في أحراش الكلام والسفسطة التي يصوّرها إعلامهم مواقف تاريخية غير مسبوقة، تُرعب الأعداء وتشفي صدور الجرحى والمصابين والنازحين الذين يزورهم القتل في خيامهم ومستشفياتهم ودروبهم الوعرة التي يتيهون فيها فراراً من الموت.

يقولون في أمثالنا الشعبية إن قيراط فعل أفضل وأغلى من فدّان كلام. وعلى ذلك، إدخال كوب مياه أو رغيف خبز أو حبّة دواء إلى غزّة يصلح معياراً دقيقاً للحكم على مواقف جنرالات الكلام والثرثرة، وليس خطابهم الناري في قاعات القمم العربية الميتة، الذي يثير ضحكات الأعداء أكثر مما يستدعي مخاوفهم. المواقف الحقيقية كسر الحصار المفروض من أشقاء الخطابة والرطانة على سكّان غزّة الذين يتطلّعون بأعينهم خلف المعابر المغلقة، بحثاً عن رجلٍ من أشقائهم يصل إليهم بالرغيف والدواء وكوب المياه من دون استئذان العدو الذي يفتك بهم، والبطولة هي الإقدام على فعل، وليس مضغ قول، يحرّر أرضًا يستبيحها العدو ويفرض سلطته عليها، محور صلاح الدين (فيلادلفي) مثلاً، والممانعة التي تستحقّ الاحترام هي التوقّف عن التطبيع القائم قبل التنديد بالتطبيع القادم، والكفّ عن التوسّل لدى العدو، لكي يزيد كمّيات الغاز المستخرج من فلسطين التي يُنعم بها على هذه الدولة العربية أو تلك، ومصداقيّة الموقف واستقامته يفرضان ألا يبقى في الزنازين شابٌّ واحدٌ من المتظاهرين دفاعاً عن فلسطين.

لو أن المسألة تُقاس بالكلام، فإن دكتاتور سورية الساقط بشّار الأسد جدير بلقب المجاهد العربي الأول، والمناضل العربي الأبرز، والخطيب العربي الأفصح، وصاحب الموقف العربي المبدئي الأوضح في مقاومة الأعداء، على نحو ما ظهر عليه في آخر قمّة حضرها في الرياض قبل ستة أشهر، حين قال "أما عن قمّتنا فمنذ عام مضى التقينا وعبّرنا، أدنّا واستنكرنا، ومنذ عام والجريمة مستمرّة، فهل نلتقي اليوم لكي نستنسخ الماضي الراحل وأحداثه، أم لنبدّل في مسار المستقبل القادم وآفاقه، ففي العام الماضي أكّدنا على وقف العدوان وحماية الفلسطينيين، وكانت محصلة السنة عشرات الآلاف من الشهداء وملايين المهجّرين في فلسطين وفي لبنان. وفي العام 2002، طرح العرب مبادرة للسلام، فكان الردّ المزيد من المجازر بحق الفلسطينيين". ومضى مستعرضاً مهاراته الخطابية "فأداتنا هي اللغة وأداتهم هي القتل، نحن نقول وهم يفعلون"، ثم يقرّر "أما الأدوات فباعتقادي أننا نمتلكها مجتمعين شعبياً ورسمياً عرباً ومسلمين دولاً وشعوباً، وما نحتاجه هو القرار باستخدامها في حال رفض الكيان للتجاوب مع ما ورد في البيان واتُفق عليه وهو المتوقع، وتحديد خياراتنا حينها، هل نغضب مرّة أخرى؟ هل ندين؟ هل نناشد المجتمع الدولي أم نقاطع؟ وهو أضعف الإيمان أم ماذا؟ ما هي خطتنا التنفيذية؟".

هكذا تكلّم الأسد كلاماً ناريّاً، لكنه في الفعل كان أجبن من دجاجة لا تجرؤ على هشّ ذبابة صهيونية تقف على وجهه.

Read Entire Article