كانت هناك حياة... ليالي الخرطوم فقدت أضواءها والضجيج

5 days ago 3
ARTICLE AD BOX

<p>الأماكن المزدحمة في الخرطوم باتت اليوم مهجورة&nbsp;(اندبندنت عربية- حسن حامد)</p>

قبل اندلاع الحرب كانت الخرطوم مدينة تضج بالحياة من الصباح الباكر حتى ساعات الليل المتأخرة، لم تكن تعرف السكون، وكانت المقاهي الشعبية تنتشر في الأرجاء يرتادها الشباب والطلاب، ورائحة القهوة تعبق في كل مكان، فالجامعات كانت ممتلئة بالحركة، والأسواق لا تهدأ وبخاصة السوق العربي بوسط الخرطوم الذي يعج بالبائعين والمتسوقين، حيث تتداخل أصوات الباعة مع صفارات السيارات وضجيج الحافلات الصغيرة.

فالمواصلات، على رغم الازدحام، كانت شرياناً نابضاً يربط الأحياء بعضها بعضاً، وداخل الحافلات تتعالى الأغاني عبر هواتف السائقين أو مكبرات الصوت الصغيرة، وفي الخلفية يتردد صوت الآذان خمس مرات خلال اليوم.

الطالبة الجامعية ميسم صالح قالت "كانت الأجواء في الخرطوم دافئة وتسير ببساطة، ولم نكن نعرف معنى الخوف والحرب وأصوات المدافع. ولدت وترعرعت ومررت بكل الظروف داخل هذه المدينة، ولم أر منها قسوة قط".

بينما يقول صالح الفكي بائع في السوق العربي منذ أكثر من 20 عاماً "كان محلي يفتح يومياً السابعة صباحاً ويغلق المغرب، والحركة في السوق العربي أشبه بالمقطوعة الموسيقية تتخللها أصوات الباعة، والكل هنا ودود على رغم ارتفاع درجات الحرارة صيفاً وشتاءً، إذ تصل في الصيف أحياناً إلى 50 درجة مئوية، لكن لا نبالي".

وفي عطلات نهاية الأسبوع كان كورنيش النيل يمتلئ بالعائلات والحدائق تعج بالضجيج ويعلو صوت الغناء الشعبي في المناسبات، وكانت الخرطوم مدينة لا تعرف النوم ولا تنطفئ أنوارها ولا تهدأ أصواتها.

نفايات ورماد

صباح الخرطوم فقد طراوته، فالشمس تشرق على مدينة تكاد تكون فاقدة لكل ما يميزها، كما أن الشوارع التي كانت مليئة بالحركة والنشاط أصبحت مجرد فراغات واسعة يخترقها هواء راكد، وغاب الزحام واختفى صوت البائعين الذين كانوا يعرضون بضائعهم في كل زاوية، وغابت أصوات المركبات التي كانت تعج بها الطرقات.

في شارع الجمهورية الذي يعد أشهر شوارع وسط الخرطوم لا تسمع خطوات المارة ولا ضحكات طلاب الجامعات، فجميع المحال مغلقة والنوافذ غطتها طبقات من التراب، بينما بعض الواجهات تحطمت وبعض المحال نهبت وتركها أصحابها كما هي، فارغة تماماً.

أما السوق العربية، فأصبحت مساحتها صامتة، حيث أبواب المحال مغلقة بإحكام، والأرض مغطاة بفتات الزجاج. والباعة الذين كانوا يعرضون بضائعهم هنا اختفوا، وأصبح المكان يبدو كما لو أنه نسي الحياة، حتى موقف جاكسون في قلب الخرطوم، والذي كان يعد من أكثر الأماكن ازدحاماً أصبح اليوم مهجوراً، وأية حركة فيه تتم بحذر من أولئك الذين يغامرون أو لا يملكون خياراً آخر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اختفت روائح قهوة ست الشاي (اسم يطلق على المرأة أو الفتاة التي تبيع الشاي والقهوة في السودان) والعطور الشعبية، وكذلك رائحة الخبز الطازج، لتترك مكانها لرائحة الرماد والنفايات المتناثرة والدخان المتصاعد من حرائق مستعرة داخل أماكن عدة.

نقاط تواصل

الباحث في التراث أبو بكر قاسم قال "في ظل ما تمر به الخرطوم اليوم من تحديات، يتضح تأثير الحرب في التراث الثقافي والهوية المجتمعية للمدينة. فالخرطوم كانت دائماً مدينة تفتخر بتاريخها الثقافي الغني والمتنوع، والأسواق القديمة، مثل السوق العربية، كانت تشكل ذاكرة حية للمجتمع، إذ كانت مكاناً للتبادل التجاري والاجتماعي، تعج بالأصوات والألوان والروائح. وهذه الأماكن لم تكن مجرد أسواق، بل كانت تمثل نقاط تواصل بين الأجيال والثقافات المختلفة. كما أن الخرطوم كانت موطناً لعدد من المعالم الثقافية، مثل شارع الجمهورية وموقف جاكسون، التي كان يعبر عنها بأنها شرايين المدينة. وفي تلك الأماكن، لم تكن الحياة تقتصر على البضائع والسلع بل كانت تمثل ثقافة معينة تعكس الحراك الاجتماعي، من خلال نشاطات مثل المقاهي الشعبية، التي كانت ملتقى للشعراء والفنانين والمثقفين، والموسيقى الحية التي كانت تملأ الأجواء في الأوقات المسائية".

 

وعما آل إليه الوضع اليوم، أفاد قاسم "اليوم، ومع دمار هذه المعالم وتدهور وضع المدينة يبدو أن الخرطوم فقدت جزءاً كبيراً من هذا التراث الحي. ومع ذلك، فإن الممارسات الثقافية التي كانت تتم في الشوارع، مثل الاحتفالات والمهرجانات الشعبية لا تزال في ذاكرة أهل المدينة. والموسيقى السودانية، على سبيل المثال، لا تزال تجد طريقها إلى قلوب الناس على رغم كل التحديات، إضافة إلى ذلك يُمكن ملاحظة المحاولات المستمرة من بعض الفئات للحفاظ على هذا التراث عبر المبادرات الشعبية الصغيرة، مثل اللقاءات الأدبية والفنية التي تنظم في أماكن غير رسمية، حفاظاً على الهوية الثقافية".

من بقي؟ ولماذا؟

وسط الخراب الذي يعم المدينة، لا تزال بعض الوجوه صامدة، تمسك بالحياة على رغم كل الصعاب. والسؤال الذي يطرحه كثر، لماذا يبقى بعض داخل الخرطوم في هذه الظروف؟ هل هو تعلق بالمكان؟ أم ضرورة ملحة؟ أم قناعة بأن الخرطوم لا يمكن أن تموت ببساطة؟

الحاجة نورة سعيد، وهي من سكان حي الرياض شرق الخرطوم، قالت "لم أكن أتصور أنني سأظل هنا في ظل كل هذا الخراب. لكن كل مكان هنا يحمل ذكرى، وكل زاوية تذكرني بحكاية من الماضي. حتى في أصعب اللحظات، الخرطوم بالنسبة إلي هي بيت لا يمكن استبداله".

فاطمة عبدالله ربة منزل تسكن حي الصحافة جنوب الخرطوم، مثل عدد من الآخرين، تجد نفسها متجذرة في المكان علىرغم الخوف والدمار. ولا يتعلق الأمر فقط بالوطن، بل بالذاكرة الجماعية التي لا يمكن أن تذبل.

 

أما عبداللطيف عثمان الموظف الحكومي الذي يسكن حي الشجرة غرب الخرطوم، فأوضح "كل الناس كانوا يحثونني على الخروج، لكن لا يوجد مكان في الكوكب يشبه الخرطوم، لذلك عزمت على البقاء لأنه بمثابة مقاومة. وبعد الحرب بقائي هنا ليس فقط للمضي في العمل بل للحفاظ على هوية المدينة ومقاومتها للتدمير الذي نحاول اقتلاع جذوره".

تحت القصف

الحياة في الخرطوم أصبحت مليئة بالتحديات اليومية التي لم يكن من الممكن تصورها قبل أعوام قليلة. ومع تصاعد الأعمال العسكرية وتدهور الوضع الأمني، صار المواطنون يواجهون الحياة من زاوية مختلفة، زاوية مليئة بالأخطار والمجهول. ومع ذلك، يسعى كثر للعيش بأقل قدر ممكن من الألم، متأقلمين مع الظروف الجديدة ومتحدين الخوف.

ومع استمرار النزاع والدمار الذي لحق بالبنية التحتية، أصبح الحصول على الماء والكهرباء أمراً بالغ الصعوبة. في عدد من الأحياء، قُطع الإمدادات بصورة كاملة، مما دفع الأسر إلى البحث عن مصادر بديلة، سواء كانت من الخزانات الصغيرة أو من المحطات الميدانية التي تقدم المياه بأسعار مرتفعة.

ويقول صلاح محمد أحد سكان حي الصالحة بأم درمان "في بعض الأيام نعيش بلا ماء لأيام عدة، ونضطر لجلبها من مناطق بعيدة. والكهرباء اختفت وأحياناً نحتاج للضوء فقط ليلاً لنشعر بأننا ما زلنا على قيد الحياة، وتحولت الحياة اليومية إلى معركة من أجل الحصول على الماء والكهرباء، وهو ما يؤثر بصورة كبيرة على العائلات التي تحاول الحفاظ على حياتها الطبيعية وسط هذا الخراب".

غياب الأمن

أما غياب الأمن، فيجعل الحياة أكثر هشاشة. بينما تتنقل الأسر بين الأحياء والطرق شبه المهجورة، يواجهون خطر التهديدات الأمنية المتزايدة من الجماعات المسلحة.

يقول أحمد إدريس "الناس أصبحوا يتجنبون الخروج من منازلهم بعد غروب الشمس. الشوارع فارغة، وكلما مررت من مكان مظلم شعرت وكأنك تحت رحمة المجهول، وفي ظل غياب الشرطة أو أي نوع من الحماية النظامية، أصبح الجيران يعتمدون على أنفسهم في حماية أحيائهم، وتنظيم دوريات حراسة ليلية".

ويعد الجانب الأهم الآخر في حياة الناس تحت هذا الوضع الصعب هو الوصول إلى الطعام والدواء. ومع قصف بعض المناطق وتدمير محال البقالة أصبح من الصعب الحصول على المواد الغذائية الأساس، كما أن نقص الأدوية وارتفاع أسعارها جعلا كثيراً من المرضى يواجهون معركة البقاء على قيد الحياة.

 

وهنا تروي منى بشير أم لثلاثة أطفال في مدينة بحري "أحياناً نضطر للعيش على الأطعمة الجافة فقط لأن الأسعار ارتفعت بصورة غير معقولة، والدواء غال جداً، وحينما يمرض أحد الأطفال نشعر بالعجز التام".

على رغم هذا الصراع اليومي، يظهر في عدد من الأحياء مشهد من التضامن الشعبي بين الجيران، فكلما ازداد الوضع صعوبة زادت وتيرة التعاون بين أفراد المجتمع. وتظهر المبادرات الشعبية على صورة تبادل الطعام، ومشاركة المساعدات وتنظيم الحملات الجماعية لإعانة العائلات الأكثر ضعفاً.

وتقول فاطمة عيسى من حي الخرطوم شرق "منذ بداية الحرب، أصبحنا نتعاون مع الجيران أكثر من أي وقت مضى، ونقدم الطعام لمن ليس لديهم شيء، ونتبادل الماء عندما تُقطع الإمدادات. نحن هنا من أجل بعضنا بعضاً".

مرحلة فراق

لكن في ظل هذا الواقع كيف ستكون الخرطوم؟ الباحث في الشؤون الاجتماعية عبدالمنعم الصادق يجيب "الخرطوم كما نعرفها انتهت. لا أقول إنها ماتت، لكن الخطر الذي يحدق بها يجعلها تتغير بصورة جذرية. نعيش في مرحلة فراق مع تاريخ طويل من العراقة والحداثة، لكن أعتقد أن الناس هنا قادرون على خلق شيء جديد، على رغم التحديات".

ويتابع "الخرطوم اليوم في مرحلة دقيقة من تاريخها، إذ يختلط الحزن بالرجاء والأمل بالدمار. ومستقبلها قد يكون مجهولاً، لكنه بالتأكيد لن يكون كما كان في الماضي".

subtitle: 
الأسواق خالية والشوارع تحن لأبواق السيارات وصوت الباعة ورائحة القهوة
publication date: 
الخميس, مايو 15, 2025 - 13:45
Read Entire Article