ARTICLE AD BOX
بين الانهيار الاقتصادي المتواصل منذ عام 2019 والعداون الإسرائيلي الأخير على لبنان، يُطل المخرج كريم الرحباني بفيلم قصير يحمل عنواناً بسيطاً: "مرة أخيرة" (One Last Time). فيلم بدا كأنّه وُلد ليكسر الصمت، لا بالصراخ، بل بالضحك الخفيف، بالتماس الإنساني، وبنقطة تماس غير متوقعة بين رجل مسنّ وامرأة طرقت بابه... بالخطأ.
"كنت أمرّ بفترة من الاستسلام. حروب حولنا في فلسطين ولبنان. شعرت أنني بحاجة إلى كسر هذا الركود. أردت أن أقدم شيئاً بسيطاً، ناعماً، يعيد لنا لحظة دفء والشعور بالحياة"، يقول الرحباني لـ"العربي الجديد".
الفيلم الذي عرض عالمياً للمرة الأولى في مهرجان البحر الأحمر السينمائي، ثم جاب مهرجانات كليرمون فيران (فرنسا)، وفريبورغ (سويسرا)، ومالمو للسينما العربية (السويد)، يتتبع قصة رجل طاعن في السن، أرمل، ومعزول، وأولاده بعيدون، يعيش ضمن روتين مملّ، ينتظر لحظة موته في صمت. إلى أن تقف امرأة على بابه. ضغطة واحدة تغيّر كل شيء.
"الفكرة جاءت من تأملي في حال كبار السن. والدي، مثلاً، لا يعرف شيئاً عن تطبيقات المواعدة. ولا عن عالم التكنولوجيا. استوحيت ردود أفعال الشخصية منه. هي ليست تجربة شخصية، لكنها نابعة من مراقبة محيطي، من وجوه الوحدة حولي"، يضيف.
ما يجعل الفيلم مختلفاً عن أفلامه التي حملت طابعاً سوداوياً هو اختياره اللّعب على مشاعر ثقيلة، مثل العزلة والملل واليأس باستخدام نغمة خفيفة، مضيئة. لكن خلف هذه الخفة تكمن طبقات من الحزن، والسؤال عن جدوى الاستمرار، وعن تلك الشرارات الصغيرة التي قد توقظ الحياة من جديد.
"أنا أحب مراقبة الناس الذين أعمل معهم. جلست مع مسنين، تحدثت إليهم، أجريت أبحاثاً لأفهم مشاعر الوحدة في سن متقدمة. كنت أبحث عن صدق بسيط، حقيقي". وأضاف: "لأجل الوصول إلى صدق الفكرة، حاولت تطبيقها على والدي، غدي الرحباني، الذي لا يملك أي معرفة بعالم تطبيقات المواعدة. رحت أراقب ردود أفعاله وتعامله مع هذا العالم الذي يبدو غريباً عليه تماماً، وأخذت من تعبيراته وانفعالاته ملامح الشخصية الرئيسية في الفيلم. لقد كان مرآتي في رسم تفاصيل البطل العجوز، حتى من دون أن يدري".
ربما لهذا السبب، اختار كريم أن يعمل مع عفيف مزبودي، رجل مسن التقى به صدفة على كورنيش الروشة وهو يبيع السمك. "شعرت بكاريزما فيه. دعوته للتمثيل. سبق له أن شارك معي في Beirut 6:07. أنا أحب المزج بين المحترفين وغير المحترفين. هناك طاقة خام تُولد من هذا التلاقي".
المشهد الأخير، حيث يضحك الرجل للمرة الأولى، كان الأصعب. "كنت خائفاً من ألا يصل الإحساس. فخلقت أجواء حميمية، أعددت المكان، واعتمدت على الحدس. الإخراج بالنسبة لي ليس توجيهاً فقط، بل تهيئة مناخ إنساني".
فيلم "مرة أخيرة" ليس مجرد قصة رومانسية متأخرة. إنه رسالة مضادة للاستسلام. محاولة بسيطة للقول: ما زال هناك شيء يمكن أن يحدث. يقول كريم: "الفيلم لا يحمل رسالة مباشرة. هو دعوة للشعور. كل مشاهد سيأخذه بطريقته. لكن ما أردته فعلاً هو أن نكسر فكرة أن الحياة تنتهي فقط لأننا كبرنا".
من "كارغو - شحن" إلى قلب بيروت
قبل "مرة أخيرة"، كان فيلم CARGO (2017) علامة فارقة في مسيرة الرحباني. مدته 20 دقيقة، وهو إنتاج لبناني – فرنسي – قبرصي مشترك. اختير في 52 مهرجاناً، ونال 19 جائزة. لكنه قبل كل شيء، قصة طفل وجده.
"أنا لست متسولاً"، قال عبَد، الطفل السوري، في وجه المدينة. تلك كانت صرخته. لا ليستجدي، بل ليُستمع إليه.
يدور الفيلم حول عبَد الذي يهرب مع جده العجوز من الحرب السورية، ليتوها في سهل البقاع، ثم يبلغا بيروت بحثاً عن مأوى، لكنهما يواجهان قسوة لا تقل فتكاً عن الحرب. يصور الفيلم العلاقة بين الطفل والجد، حيث يتحول الحِمل الجسدي إلى رابطة عاطفية عميقة.
الفيلم لا يستعطف، بل يسائل. لا يصرخ، بل يهمس. ينقل نظرة طفل عن معنى الوطن، والكرامة، والخوف.
كتب كريم السيناريو بالشراكة مع والده غدي الرحباني، وشارك غدي أيضاً في التمثيل. أما الطفل عبد الهادي عسّاف، فقد اختاره كريم من الشارع، وهو نفسه أحد ضحايا النزوح السوري، ليتكرر التعاون بينهما بعد أن أدى دوراً سابقاً في فيلم "ومع روحك".
وعن البحث والتحضير في أعماله، يحرص كريم الرحباني على إدخال عنصر البحث الميداني في معظم أعماله. لا يكتفي بالكتابة أو التخيّل، بل يفضل الغوص في العالم الذي يريد تصويره، سواء من خلال العيش أسبوعاً كاملاً داخل دير كما فعل في "ومع روحك"، أو عبر مقابلات مع المسنين لتحضير فيلم "آخر مرة"، أو حتى الجلوس مع ضحايا حقيقيين في سلسلة Dark Minds، يؤمن كريم أن السينما الحقيقية تبدأ من الإصغاء إلى الناس، من الملاحظة الدقيقة، والتعمق في التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرق الكبير.
"مع روحك"
أما في فيلمه القصير With Thy Spirit (2014) الذي عُرض في 24 مهرجاناً دولياً وحصل على 11 جائزة، فقد قرر كريم أن يغوص في عالم نادراً ما يُعرض في السينما: الحياة داخل الأديرة اللبنانية.
في "مع روحك"، لا يكتفي كريم الرحباني باستكشاف عزلة الحياة الكنسية، بل يفتح بوابة سينمائية جريئة على مفارقات السلطة الروحية حين تُواجه هشاشة الإنسان. الفيلم، الذي يدور في دير لبناني، يروي قصة طفل سوري لاجئ يعيش في كنف الرهبان، قبل أن يوقظ حادث مباغت العنف الكامن خلف الصمت والخشوع.
أقام الرحباني في الدير أسبوعاً كاملاً مدفوعاً بفضول إنساني وسينمائي لفهم البنية النفسية والاجتماعية لأشخاص يَبدون خارج الزمن. لكنه وجدهم، كما قال: "بشر عاديون، يحملون التوترات نفسها التي نحملها نحن". من هنا، بنى فيلماً يتعمق في حدود الغفران، ومواقع السلطة التي لا يُفترض أن تُخطئ، لكنها تفعل.
الخطأ في الفيلم لا يأتي من الخارج، بل من الداخل. من داخل جدران يُفترض أنها محصنة بالإيمان. ومن خلال بناء بصري متقشف وأداءات صامتة، يسلّط الفيلم الضوء على ما يحدث حين يتصادم النظام المغلق مع الطارئ، حين يجد الراهب نفسه في موضع سلطة أخلاقية تجاه طفل مكسور.
"مع روحك" ليس فقط عن صراع ديني، بل عن كيف تصير القداسة غطاءً أحياناً لتغليف القسوة أو التهرب من المسؤولية. وهو بهذا المعنى واحد من أكثر أعمال الرحباني تعقيداً وتلميحاً، حيث لا يصدر الحكم، لكنه يدفع المشاهد للبحث عن الإجابة بنفسه.
الفيلم يكشف تفاصيل دقيقة عن العزلة الروحية، والحوار الداخلي، والخطوط الرفيعة بين الإيمان والشك، بين التديّن والحياة اليومية.
دراما الجريمة
ليس غريباً على الرحباني أن ينتقل من الأفلام القصيرة إلى التلفزيون، لكنه لم يتجه إلى الدراما فحسب، بل اقتحم أحد أكثر الأنواع حساسية: الجريمة الوثائقية.
في عقول مظلمة، أنتج وأخرج أول سلسلة وثائقية عربية عن القتلة المتسلسلين في العالم العربي. تناولت قصصاً حقيقية هزّت المجتمعات، وصُورت بواقعية تُشبه السرد الروائي.
ففي سلسلة "عقول مظلمة"، يخوض كريم الرحباني مغامرة سينمائية من نوع مختلف: أول سلسلة وثائقية عربية تتناول موضوع القتلة المتسلسلين في العالم العربي. هذا العمل الجريء، الذي مزج بين التحقيق الصحافي والبناء البصري الدرامي، يكشف عوالم مخفية من الجرائم التي هزّت المجتمعات، ويطرح أسئلة ثقيلة عن النفس البشرية، والشر الكامن، وحدود العدالة.
بعيدًا عن الإثارة المجانية، اختار كريم أن يغوص في دوافع القاتل، آثار الجريمة على عائلات الضحايا، وطريقة تعامل المجتمع مع الظلام. يقول: "كنت قد تعافيت من وعكة صحية. وكنت أبحث عن مشروع خفيف، فإذا بي أغوص في واحد من أكثر المواضيع ثقلاً. بعد أسبوعين، شعرت أنني أُخرج فيلماً روائياً، لا وثائقياً. المشاعر كانت كثيفة جداً".
ما ميز السلسلة ليس جرأتها فقط في التطرق إلى موضوع شبه محظور، بل الطريقة التي رُويت بها القصص: بمقابلات حقيقية، ومقاطع تمثيلية، ومونتاج ينقل الإحساس لا فقط المعلومة. هذ التجربة تنتمي إلى عالم الوثائقيات السوداء، لكنها أيضاً امتداد طبيعي لسينما الرحباني التي تبحث دائماً عما هو صامت... ومسكوت عنه.
