كنوز الفاتيكان: هل يواصل لاوون الرابع عشر مسيرة سلفه؟

1 week ago 4
ARTICLE AD BOX

لاوون الرابع عشر، واسمه الأصلي روبرت فرانسيس بريفوست، هو أول بابا أميركي، وأول عضو في رهبنة القديس أغسطينوس يتولى المنصب الديني المسيحي الأعلى في العالم. نشأ في مدينة شيكاغو، وقضى سنوات طويلة مرسلاً أغسطينياً في البيرو، قبل أن يصبح أسقفًا، ثم كاردينالًا، وأخيرًا حبرًا أعظم.
لكن ما يجعل انتخابه استثنائيًّا، ليس فقط جذوره الأميركية أو انتماؤه إلى رهبنة قلّما وصلت إلى هذا المنصب، بل أيضًا أنه يقف اليوم على عتبة مسؤولية مزدوجة: قيادة الكنيسة في حقبة شائكة، وحماية كنوز الفاتيكان الفنية والمعمارية التي تشكل جزءًا أساسيًّا من التراث الإنساني.

عند انتخاب بابا جديد، هو لا يرث سلطة روحية فحسب، بل يصبح أيضًا وصيًّا على واحدة من أغنى مجموعات الفن في العالم. فإلى جانب دوره الديني، يحمل البابا لقب حارس متاحف ومكتبة الفاتيكان، التي تضم آلاف القطع الفنية النادرة والمخطوطات الثمينة، ومجموعة من أعظم الأعمال التي أبدعها البشر.
في قلب هذا الإرث تقف كاتدرائية القديس بطرس، التحفة المعمارية التي صممها عمالقة مثل برامانتي، ومايكل أنجلو، وبرنيني. وتطل في الجوار كنيسة السيستين، بجدرانياتها التي زينها مايكل أنجلو بلوحاته الخالدة مثل "يوم القيامة" و"خلق آدم"، بينما تخبئ جدران القصر الرسولي شقق رافائيل، التي تتوجها لوحة "مدرسة أثينا"، أيقونة عصر النهضة.
ولا تقتصر كنوز الفاتيكان على هذه الأيقونات، بل تشمل أيضًا كنائس أخرى خارج أسوار الدولة الصغيرة، مثل سانتا ماريا ماجوري، وسان جيوفاني في لاتيرانو وسان باولو خارج الأسوار، وكلها تخضع لسلطة الكرسي الرسولي. إنها شبكة معقدة من المعالم الفنية والدينية، تتطلب إدارة دقيقة ومستمرة للحفاظ على جمالها وقدسيتها.

لم يعد دور البابا المعاصر مقتصرًا على الدفاع عن العقيدة أو إدارة شؤون الكنيسة، بل أصبح مطالبًا بأن يكون صوتًا للثقافة والفنون في عالم سريع التحول. فقد أظهر الباباوان السابقان، بندكت السادس عشر وفرنسيس، اهتمامًا استثنائيًّا بالفن، ليس فقط في إطار الحفاظ، بل أيضًا في الانفتاح على الفن الحديث والمعاصر.
في عهد بندكت، شارك البابا بنفسه في أعمال ترميم كنيسة بولين، وصعد إلى السقالات ولمس جدارية "صلب القديس بطرس" لمايكل أنجلو بيده، في لحظة رمزية أكدت التزامه بحماية هذا التراث. أما فرنسيس، فقد افتتح صالة للفن المعاصر داخل مكتبة الفاتيكان، وجعل الفاتيكان يشارك لأول مرة بجناح خاص في بينالي البندقية، وأعاد ثلاثة أجزاء من رخام البارثينون إلى اليونان، في خطوة أثارت إعجاب العالم وأعادت النقاش حول استرداد الكنوز الثقافية.
الآن، يجد لاوون الرابع عشر نفسه أمام سؤال محوري: كيف يمكنه الموازنة بين حماية تراث عمره قرون، والانفتاح على فنون الحاضر والمستقبل؟ هل سيسير على خطى سابقيه في مد الجسور مع الفنانين المعاصرين، أم يضع تركيزه على ترميم الإرث الكلاسيكي وصونه؟ وفق أسئلة تطرحها مجلة ذا آرت نيوزبيبر.

ليست إدارة متاحف الفاتيكان مهمة فنية بحتة، بل لها أبعاد دبلوماسية واقتصادية وسياسية. فاللوحات والمنحوتات ليست فقط أعمالًا للعرض، بل تحمل قصصًا ورموزًا وعلاقات تاريخية مع دول ومؤسسات. لقد أظهرت خطوة إعادة رخام البارثينون، مثلًا، كيف يمكن لإيماءة فنية أن تعيد ترميم علاقات ثقافية وسياسية.
وفي ما يخص لاوون الرابع عشر، يتطلب الحفاظ على هذا التوازن رؤيةً واضحة. فقد أبدى، خلال عمله السابق رئيساً للجنة البابوية لأميركا اللاتينية، اهتمامًا بقضايا العدالة الاجتماعية والتغير المناخي، مؤكدًا أن "السيادة على الطبيعة يجب ألا تتحول إلى استبداد، بل علاقة تبادلية مع البيئة". رؤية كهذه تحمل صدى مباشرًا لدور البابا في حماية المعالم الفنية المهددة بفعل تغير المناخ، سواء في روما أو حول العالم.

يرى كثيرون أن الفن في الفاتيكان ليس مجرد ترف أو ديكور، بل لغة روحية وجسر للحوار بين الثقافات. هذه الرؤية برزت جليًّا في كتاب "البابا فرنسيس ــ فكرتي عن الفن" (Papa Francesco - La mia idea di Arte)، حيث دعا إلى أن تكون متاحف الفاتيكان مكانًا للجمال والترحيب، وأداة لحوار الثقافات والأديان، ومفتوحة أمام كل شعوب الأرض.
هل سيواصل لاوون الرابع عشر هذه الرؤية؟ المؤشرات المبكرة توحي بذلك، خاصة أنه لطالما تبنى مواقف معتدلة وباحثة عن التلاقي. ويبدو أن البابا الجديد مدرك تمامًا لقوة الفن أداةً دبلوماسية وروحية، تمامًا كما أدرك أسلافه، بدءًا من لاوون الرابع عشر الذي خلد رافائيل قصته في لوحة "لقاء ليو الكبير وأتيلا"، حين أقنع زعيم الهون بعدم غزو روما.

في النهاية، يقف البابا لاوون الرابع عشر أمام إرث ثقافي هائل، وتحديات بيئية معاصرة، وضغوط دبلوماسية معقدة. هو ليس فقط راعيًا لأرواح المؤمنين، بل حارسٌ لكنوز الفن الإنساني، وصوتٌ يدعو إلى أن يبقى الجمال حيًّا، محميًّا، ومتجددًا.
قد تكون تحيته الأولى للعالم، "السلام لكم"، تحمل رسالة أكبر مما تبدو عليه: سلام للإنسان، وسلام للفن، وسلام لذاكرة العالم.

Read Entire Article