لبنان وفرصة الحل المالي الشامل

6 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

منذ شهر إبريل/نيسان الماضي ولغاية اليوم، تسارعت وتيرة التطوّرات التي توحي بأنّ لبنان بات أمام فرصة جديّة لتطبيق حلّ مالي شامل، للأزمة التي تمرّ بها البلاد منذ أواخر عام 2019، إذ يبدو أنّ البيئة السياسيّة والتأثيرات الخارجيّة باتت، ولأوّل مرّة منذ بدء الأزمة، مهيّأة لفرض الإصلاحات المنتظرة على المستوى الاقتصادي، والتي تسمح بمعالجة الأبعاد المصرفيّة والماليّة والنقديّة للانهيار الذي استمرّ على مدى خمس سنوات. في واقع الأمر، عرف اللبنانيّون خطتين حكوميّتين للتعافي المالي، خلال السنوات الماضية.

حيث جرى إقرار الأولى عام 2020، في أيّام حكومة الرئيس السابق حسّان دياب، فيما أقرّت الخطّة الثانية حكومة الرئيس السابق نجيب ميقاتي عام 2022. وفي الحالتين، لم تملك الحكومتان ما يكفي من قوّة أو جرأة سياسيّة، للمضي قدماً بتنفيذ الخطتين، بإجراءات أو مقترحات ملموسة. بل كانت مراكز النفوذ والنخب المصرفيّة والماليّة قادرة على عرقلة هذه الحلول، التي لا تتناسب مع مصالحها.

ولهذا السبب، ظلّت خلاصات المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، وما نتج عنها من شروط وإصلاحات مطلوبة من لبنان، حبراً على ورق. الجديد اليوم هو مضي الحكومة الحاليّة، مدعومة بغطاء دولي معتبر، في ترجمة تلك الشروط والخطط بخطوات فعليّة، وإن لم يجر الإعلان عنها ضمن خطّة حكوميّة جديدة ومُعلنة كما جرى سابقاً. ومن المرجّح أن تكون الحكومة قد تفادت الإعلان عن خطّة شاملة من هذا النوع، لتفادي إسقاطها بالهجمات الشعبويّة، أو بالمزايدات غير الواقعيّة، كما حصل سابقاً مع خطتي حكومتي حسّان دياب ونجيب ميقاتي.

رغم عدم الإفصاح عن هذه الخطّة، تشير مراسيم مشاريع القوانين التي جرى إقرارها، ويجري العمل عليها اليوم، إلى أن هناك رؤية واضحة ومتكاملة لكيفيّة التعامل مع أزمات المصارف والمديونيّة العامّة وماليّة الدولة. وهذه الرؤية، لم تبتعد كثيراً عن الخطوط العريضة التي كان يلح عليها صندوق النقد والمجتمع الدولي، التي جرى على أساسها وضع الخطتين السابقتين. على مستوى أزمة المصارف، ثمّة ثلاثة تشريعات ستتكامل في إطار عمليّة إعادة هيكلة المصارف.

أولى هذه التشريعات، سيكون قانون إصلاح أوضاع المصارف، الذي أعدّته الحكومة بوصفه مرسوم مشروع قانون، فيما ستجري دراسته في البرلمان خلال الفترة المقبلة في إطار لجنة فرعيّة، جرى استحداثها خصّيصَى لهذه الغاية. ومن المعروف أنّ حاكم مصرف لبنان قدّم -بعد بدء دراسة مشروع القانون في البرلمان- مذكّرة أبدى فيها بعض التحفّظات على مقاربة الحكومة، بينما يفترض أن تسعى اللجنة الفرعيّة لردم الهوّة بين مقاربات كلّ من الحاكم والحكومة، تمهيداً للتصويت على الصيغة النهائيّة. سينظّم هذا القانون، بعد إقراره، صلاحيّات لجنة الرقابة على المصارف، لتتمكّن من القيام بأعمال التدقيق في الميزانيّات المصرفيّة، ومن ثم اقتراح توصيات كفيلة بإصلاح أوضاع المصارف أو دمجها أو إعادة رسملتها أو تصفية بعضها. وكما بات واضحاً، سيضيف القانون إمكانيّة الاستعانة بشركات التدقيق الدوليّة المستقلّة، لإنجاز هذه العمليّة بشكل تقني وموضوعي، وبعيداً عن التأثيرات أو الضغوط السياسيّة. كما سيغيّر قانون إصلاح أوضاع المصارف تركيبة الهيئة المصرفيّة العليا، المختصّة بمحاسبة المصارف المخالفة، واتخاذ القرارات بخصوص مصير كل مصرف على حدة، في ضوء توصيات لجنة الرقابة على المصارف.

وسيأتي القانون ليزيد من استقلاليّة هذه الهيئة، عبر إخراج ممثّل جمعيّة المصارف منها، مقابل إدخال ثلاثة خبراء مستقلّين، يجري تعيينهم بناءً على اقتراحات وزراء الماليّة والعدل والاقتصاد. وبهذا الشكل، تكون الهيئة قد أضحت أكثر بعداً عن تضارب المصالح، بإبعاد المصارف عن المشاركة في اتخاذ القرارات المتصلة بمحاسبتها وإعادة هيكلتها. التشريع الثاني الذي سيسهّل عمليّة إعادة هيكلة المصارف، سيكون قانون رفع السريّة المصرفيّة.

مع الإشارة إلى أنّ البرلمان أقرّ هذا القانون بالفعل، وفقاً لصيغة مشابهة لتلك المحالة سابقاً من قبل الحكومة، بل وكانت المفاجأة إدخال الهيئة العامّة للبرلمان بعض التحسينات والتعديلات الإيجابيّة على مشروع القانون، بعد أن حاولت اللجان النيابيّة سابقاً تقليص نطاق رفع السريّة. ومن المفترض أن يعطي القانون مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة، سواء لغايات إعادة هيكلة المصارف، أو لإتمام عمليّات التدقيق والرقابة العاديّة.

أمّا الأهم، فهو أنّ القانون أعطى هذه الصلاحيّة أيضاً لشركات التدقيق، التي يفترض أن تقوم بتقييم أوضاع المصارف، بناءً على تكليف لجنة الرقابة أو مصرف لبنان. ومن دون هذا القانون، كان سيتعذّر إتمام عمليّة إعادة الهيكلة على نحوٍ عادل. أهم ما في قانون رفع السريّة المصرفيّة، كان شموله مفعولاً رجعياً يصل لغاية عشر سنوات، أي ما يسمح بكشف المعلومات المصرفيّة لكل الفترة الممتدة منذ إبريل 2015 ولغاية اليوم. وهذا ما يسمح بالتدقيق بالمخالفات والارتكابات التي حصلت قبل انكشاف الأزمة المصرفيّة عام 2019، وخصوصاً تلك المرتبطة بما يُعرف بعمليّات الهندسات الماليّة التي قام بها حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة.

وهذا الجانب من قانون رفع السريّة المصرفيّة، يتكامل مع مشروع قانون إصلاح أوضاع المصارف، الذي يسمح بدوره باستعادة بعض الأرباح غير المشروعة التي جرى تحقيقها سابقاً، والتي ساهمت بتعثّر المصارف. أمّا ثالث التشريعات المرتبطة بمعالجة الأزمة المصرفيّة، فسيكون قانون الانتظام المالي، الذي سيختص بتوزيع خسائر الأزمة المصرفيّة الاستثنائيّة الحاليّة، كما سيحدد المعايير والأولويّات التي سيجري اعتمادها لتسديد الودائع الموجودة في القطاع المصرفي.

وفي الوقت الراهن، يعمل مصرف لبنان على صياغة مسودّة مشروع القانون، قبل أن يحيله إلى الحكومة التي ستحيله بدورها إلى مجلس النوّاب. ولا يبدو حتّى اللحظة أنّ هناك هوّة جديّة بين الحكومة ومصرف لبنان، في ما يخص المقاربة التي سيجري اعتمادها في قانون الانتظام المالي، ما يبشّر بإمكانيّة التوصّل إلى صيغة متفق عليها بين الطرفين. هكذا، ومن خلال العمل على التشريعات الثلاثة، كلٌّ على حدة، ترتسم شيئاً فشيئاً المعالم القانونيّة للمعالجة المتكاملة للأزمة المصرفيّة.

فيما يفترض أن تمضي الحكومة قدماً بالتفاوض مع حملة سندات الدين العام، للتوصّل إلى اتفاق موازٍ لإعادة هيكلة هذا الدين. ثمّة العديد من العوامل التي تفسّر سرعة العمل على هذه المسارات، بعد العراقيل والأفخاخ التي منعت هذا الأمر خلال السنوات الخمس الماضية، إذ إنّ الغالبيّة الساحقة من الدول المانحة التي يعوّل عليها لبنان لإعادة إعمار ما دمّرته الحرب الأخيرة، اشترطت إجراء هذه الإصلاحات الماليّة، في إطار اتفاق مع صندوق النقد، قبل حصول لبنان على مساعدات إعادة الإعمار.

فالمجتمع الدولي بات يعرف حاجة الدولة اللبنانيّة لنظام مالي سليم، ومؤسّسات عامّة فعّالة، لضمان فعاليّة وكفاءة عمليّة إعادة الإعمار. ومن جهة أخرى، طرأت تحوّلات سياسيّة جذريّة على المشهد المحلّي منذ بداية السنة، فباتت السلطات اللبنانيّة تتمتّع بغطاء ودعم دولي وعربي أكبر، قياساً بالفترة السابقة. وهذا ما أعطى الحكومة اللبنانيّة والعهد الرئاسي قدرة أكبر على المبادرة والقيادة السياسيّة، للتمكّن من الشروع بتنفيذ الإصلاحات الماليّة المنتظرة. ومن المعلوم أنّ القوى والحياة السياسيّة اللبنانيّة تتأثّران بشكلٍ كبير بالعوامل الخارجيّة الدوليّة والإقليميّة، وهو ما يؤثّر بدوره على قدرة السلطات على صياغة معالجات اقتصاديّة معقّدة وحاسمة. 

Read Entire Article