ARTICLE AD BOX
يُعاني المشهد السوري اليوم من انزلاق مُتسارع نحو إعادة إنتاج الطائفية، ولكن هذه المرّة على نحو معكوس. فبينما كانت الطائفية السياسية سابقًا أداة تمكين للأقلية العلوية في مفاصل الدولة والنظام، تتخذ اليوم ملامحها الجديدة شكل تماهٍ سني مع الدولة، بوصفها مكسبًا انتقاليًا بعد سنوات طويلة من الإقصاء والعنف. غير أنّ هذا التغيير في الهوية السياسية لا يصاحبه تغيير في بنية الدولة أو منطق الحكم، ما يجعل من الدولة السورية المعاصرة كيانًا هشًّا، يُعيد إنتاج التصدّع، بدلًا من معالجته.
التصوّرات، كما يشير علم النفس السياسي، لا تقلّ أهمية عن الوقائع؛ بل تتفوّق عليها أحيانًا في توجيه السلوك. فالمجتمعات لا تتفاعل مع الواقع كما هو، بل كما تتصوّره. وفي الحالة السورية، تشكّل لدى قطاعات واسعة من المسلمين السنّة تصوّرٌ عميق بأنّ ما جرى منذ عام 2011 ليس فقط قمعًا لثورة شعبية، بل استهدافًا طائفيًا مُمنهجًا، مارسه نظامٌ مُنحاز لأقلّية مذهبية، واستقوى بصمتٍ أو تأييدٍ من أقليات أخرى. هذا التصوّر غذّته وقائع ميدانية دامغة، لكنه سرعان ما تحوّل لدى البعض إلى بوصلة تفسير مطلقة، تقرأ كلّ شيء من منظور طائفي صرف.
لقد أنتج هذا التصوّر مشاعر عدائية تجاه الأقليات، وولد استبطانًا لثنائية ظالِم (علوي/أقلي) ومظلوم (سني/أكثري)، لا تترك مجالًا لتصوّر وطني جامع. ومع تراجع المدّ الثوري وارتفاع وتيرة العنف الأسدي، تعزّز حضور هذه الثنائية في الإعلام والمعارضة والمجتمع، حتى بات تبرير الانتقام، أو تقبّل العنف المضاد، أمرًا شائعًا، حتى في أوساط من يُفترض أنهم حداثيون أو لادينيون.
الانقلاب في الهوية لا يعني بالضرورة تحوّلاً في البنية؛ إذ لا تزال مؤسسات الدولة تفتقر إلى مبدأ المواطنة، وتُدار بمنطق العصبية والولاء الطائفي
اللافت أنّ هذا التصوّر الطائفي لم يعد مقتصرًا على النظرة إلى الماضي، بل بدأ يوجّه الحاضر ويصوغ المواقف من السلطة الجديدة في دمشق. ففي لحظةٍ يُفترض أنها انتقالية، تتحوّل الدولة من مشروع عمومي إلى ملكية طائفية مضادة. هذا ما يجعل بعض السنة يتماهى مع الدولة الجديدة على نحو يشبه تمسّك العلويين بـ"دولتهم" السابقة. في الحالتين، الدولة أداة للخوف، لا للتعايش. هذا الانقلاب في الهوية لا يعني بالضرورة تحوّلًا في البنية؛ إذ لا تزال مؤسسات الدولة تفتقر إلى مبدأ المواطنة، وتُدار بمنطق العصبية والولاء الطائفي.
من جهةٍ أخرى، يعاني النظام الجديد من مفارقة حادة؛ السنة، وإن كانوا أكثرية عددية، لا يمتلكون التمكين السياسي الذي امتلكه العلويون سابقًا (من باب أن العلويين حكموا لـ40 عامًا). فالأكثرية، بطبيعتها، أكثر تنوّعًا وتعدّدية، وأقلّ قابلية للتماهي الصلب مع السلطة. كما أن ّالخوف الذي يسكن الوعي السني حيال "العدو الأسدي" لا يرقى إلى الخوف الوجودي الذي شحن العصبية العلوية في العقود الماضية. لذا، يصعب على النظام الجديد أن يستنسخ تجربة الأسد الطائفية على المدى البعيد.
يصعب على النظام الجديد أن يستنسخ تجربة الأسد الطائفية على المدى البعيد
الإشكال أنّ هذه التصوّرات المُتبادلة تُنتج أشكالًا من الصراع الذاتي تشبه "أمراض المناعة الذاتية" في الجسد البشري؛ حيث تنقلب آليات الحماية إلى أدوات فتّاكة. فكما استُخدم خطاب حماية الدولة سابقًا لتبرير المجازر، يُستخدم اليوم لتسويغ العنف المضاد، وكأنّ الدولة مجرّد ذريعة لتصفية حسابات مذهبية مؤجلة.
النتيجة أنّ أيّ نظام سياسي جديد في سورية لن يستطيع الاستقرار ما لم يُدرك خطورة الطائفية، ويواجهها بجرأة لا بمجرّد خطابات. المطلوب ليس توازنًا طائفيًا، بل إعادة تأسيس للدولة على أساس المواطنة، بما يتيح لجميع المكونات التماهي مع الدولة، لا الخوف منها أو الاحتماء بها.
ختامًا، فإنّ إعادة إنتاج السلطة على أسس طائفية مقلوبة، مع الإبقاء على منطق الإقصاء والتخوين والعنف، لن تقود إلا إلى دورة صراع جديدة. وحده تفكيك التصوّرات الطائفية، وبناء تصوّر وطني جامع، قادر على منح سورية استقرارًا حقيقيًا، بعيدًا عن هويات القلق وثنائيات الضحية والجلاد.