ARTICLE AD BOX
يتزعزعُ الإدراك، ويُعاد ترتيب الوعي من الجذور في تلك اللحظات التي تتقاطع فيها الأسئلة الوجودية مع الوقائع الملموسة. حيث إنّ لقائي بإسراء جعابيص لم يكن مجرّد مناسبةً للاقتراب من تجربةٍ إنسانية جليلة، بل ربّما اختراق لمحدودية التصوّر حول ما يمكن أن يكونه الإنسان بعد تخطّيه أقصى اختبارات الألم (هل يتخطّى من اجتاز؟): أن يُسلب جسده على الصورة التي يعرفها، ويُحاصر في ذاته التي أرادها، ثم يُترك ليعيد بناء معناه من رماد التجربة.
اصطدمنا بوجودٍ أمنيٍّ يتعامل مع وجودنا باعتباره تهديداً عند مدخل البناية التي يفترضُ أن نلتقي فيها (وجودنا في أيّ مكان حول أي موضوع إلا الجوع والخوف)، لا متحلّقين حول أسيرةٍ محرّرة، بل مصدرَ تهديد غير مُدرَك: رجالٌ مسلّحون، نظراتٌ مرتابة منزعجة متحفّزة؛ فكلّ كسرٍ لفرض الصمت تهمةٌ ولو كان لقاءًا إنسانيًّا لتحيّة رمزٍ لحركةٍ أسيرة أو للتجربة الفلسطينية كلّها، لم تكن إسراء بحاجة إلى شرح، هي التي عاشت الحصار في الوطن والزنزانة والسيارة المحترقة والمحكمة والجسد الذائب قسرًا، عرفت أن ما تراه ليس استثناءً، بل تكرارٌ لصورة الاحتلال التي ظنّت أنها تركتها خلفها: محاصرة الغَشَم لحدود الهشاشة.
غادرت القدس لا فرارًا من العدو، بل تجنّبًا لأثره اليوميّ الذي تحاول التخلّص منه: تضييق، مراقبة، حرمان من العلاج، وملاحقة تحاصر الجسد والذاكرة معًا، وحين جاءت إلى القاهرة، بين انتقالين قسريّين ليس أحدهما للوطن، بحثًا عن ثغرةٍ في الجدار، صادفت أشباه الحواجز القديمة بلهجةٍ وزيّ ومبرّرات مختلفة، وبالبنية نفسها: سلطة خائفة من الاجتماع، مرتابة من الكلمة، متوجّسة من الحضور الإنساني حين يتجاوز الخوف أو يكاد.
سلطة خائفة من الاجتماع، مرتابة من الكلمة، متوجّسة من الحضور الإنساني حين يتجاوز الخوف أو يكاد
خشية الوقاحة، أمسكتُ عن الكلام في حضرة التجربة أو أردتُ، إدراكًا لحدود الذّات مقابل ما يتجاوزها (وإن تعاملت هي بغير ذلك، وعاملتني معاملة الأسير المحرّر الذي يقارب تجربتها أو يتجاوزها)؛ فكلّما زاد جلال المحنة، وجب الإنصاتُ وخفض الرأس والرأي والصوت، ولأنّ المحنة هنا هي فلسطين والأسر والاحتراق/الحرق، وخذلانٌ عجيب بعد كلّ هذا، يصبح الإنصاتُ إشارة إلى عدالةٍ مؤجّلة لصالح الضحايا وأصحاب الحقوق.
في طريقي إليها، تمنّيت أن أقترب، أحيّيها وأنصرف (أخبرنا المرافقون بصرامة أنها لا تصافح الرجال)، ظننتُ البساطة فيها نجاة من التورّط أكثر، لكنّ حضورها جرّدني من غالب تصوّراتي، وجدتُني أريد أن أبقى، لا لأستمع فقط، بل لأعيد تشكيل فهمي للنجاة، كانت تتحدّث، لا عن الحكاية بوصفها أرشيفاً، ولا "حدّوتة قبل النوم" بل تجربةً تتجدّد مع كلّ سؤال، وكلّ نظرةٍ قد تُصنّفها أو تُجرّحها، لم تكن الحكايات بطولاتٍ مُصاغة، بل مشاهد رعبٍ من لحمٍ ودمّ: حرقٌ متعمّد، حرمانٌ من العلاج، احتقارٌ للجسد وسيلةً للإذلال، وتعذيبٌ بالتأخير لا بالضرب.
رغم إذابةِ النّار أصابعها (لا أصدّقُ أنني أصوغ جملةٍ كهذه)، كانت تُوقّع على كتبها من دون تردّد، سألتها بخفوتٍ قبل أن أعلن عن توفّر نسخٍ من كتابيها للاقتناء: "هل يمكنكِ التوقيع؟"، أجابت بهدوءٍ قاطع: "طبعًا"، وكما تعلّمت الصبر والصمود والبقاء، تعلّمت الكتابةَ بغير أصابعها بتدريبات شاقة وصارمة في الأسر كما حكت لي.
يمكن أن تحترق ولا تنطفيء أبدًا، بل تظلّ تضيء
لم يكن الاحتلال والأسر والحرقُ جروحها الوحيدة، بل ما بعده أبقى أو أشدُّ أثرًا؛ نظرات الشفقة أو الرفض والعجز عن استيعاب اختلافها القسريّ. قالت إنّه أصعب ما تواجهه منذ تحرّرها: "نظرات أولئك الذيم لم يتقبّلوا شكلها"، الذين لم يروها إلا ضحيّةً لا إنسانةً تقاومُ وتعيد خلق ذاتها من جديد، وهو ما لزمه الصبر لا بوصفه انفعالاً عاطفيّاً بل قراراً فلسفيّاً، أن تواجه ذلك كلّه لا بالانهيار بل بإعادة البناء والمضيّ نحو غدٍ تريده وتحلم به.
ببساطةٍ، هزمت تحاذقنا حولها في الأسئلة والمناقشة، كأن تردّد باطمئنانٍ واضح "فلسطين تعرف كيف تتعافى"، لقد اختبرت ذلك، ووجودها هنا على هذه الصورة بعد هذه التجربة دليلٌ حاسم، إسراء تعرف ما تقول، لا قناعةً بل واقعاً مختبراً، تدحض ببداهةٍ سرديّات الاحتلال وغشمِ قوّته، وحتى توقّعات الضحايا المزمنين، بالكتابة بلا أصابع (تلك الذي أذابتها النيران) تعيد تعريف النصر، وتجسّده لتخبر الجميع: ما القادم.
بطول الحديث معها والإنصاتِ لكلامها وصمتها وحضورها، كان سؤال يلحّ عليّ: ما معنى الصمودُ إن لم تخرج من الحرق إلى الأسر في الوطنِ المحتلّ من دون أن ينال ذلك من روحك شيء؟
خرجتُ من اللقاء أحمِل يقينًا واحدًا: يمكن أن تحترق ولا تنطفئ أبدًا، بل تظلّ تضيء... وعدتُ أتساءل لا عن فلسطين هذه المرّة، بل عن أنفسنا، وجودنا البشريّ كلّه ربّما: لم نحترق لنترمّد بعدها، فما الذي أطفأنا هكذا؟