ARTICLE AD BOX
فيما لا يعرف أحد إن كان العالم مُنقسمًا إلى قطبين، أم بلغ مرحلة تعدّد الأقطاب، أم لا يزال تحت عباءة نظام القطب الواحد، يحتفل (هذا العالم) بمرور الذكرى الثمانين على انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية والقضاء على النازية والفاشية، في حرب صنعت نظامًا دوليًا استطاعت فيه "القوى العظمى" ألا تدخل في حرب طاحنة في ما بينها لمدة 80 عاما، وهي أطول فترة في التاريخ الحديث والمعاصر.
كانت لافتة للغاية العروض العسكرية الضخمة التي أقامتها موسكو في "عيد النصر"، وحضور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى جانب رؤساء دول حليفة، أهمهم الرئيس الصيني، فيما شاركت جيوش دول أخرى في الاستعراض الضخم، منها مصر، في رسالة واضحة من موسكو للدول الأوروبية والولايات المتحدة، أنّ عزلها غير ممكن، في محاولة للتذكير بدور روسيا (الاتحاد السوفييتي سابقا) التاريخي الذي لن يُمحى من الذاكرة في القضاء على النازية الألمانية.
استوعبت العواصم الأوروبية الرسائل الروسية القادمة من ساحر الكرملين جيّدًا، حيث التقى رئيس فرنسا، إيمانويل ماكرون، "عدو" الروس، الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وأخذه بالأحضان، قاصداً بذلك أنّ أوروبا لن تتخلّى عن كييف حتى لو أراد "العم سام" تقديمها للدب الروسي على طبق من ذهب لأجل إنهاء الحرب، خاصة في هذه المرحلة الحاسمة من المفاوضات بين موسكو وكييف.
العالم مليء بالحروب والدمار، ولا تكاد قارة واحدة تعيش هادئة إلا في ما ندر
أما برلين، فلا تزال بعد ثمانين عاما من نهاية الحرب العالمية "تطلب الغفران" عن ذنبها وتتحمّل مسؤوليتها عمّا حدث، ولا تزال تريد أن تدفع المزيد من التعويض لعلّ شعوب الدول المتضرّرة من الحرب تغفر وتنسى ألمانيا النازية.
تأتي هذه الاحتفالات الكبرى في عواصم القرار العالمي والأوروبي وتبادل الرسائل، فيما النازية والهولوكوست وأوصاف الحرب العالمية لا تزال موجودة في مكان آخر من الأرض، وفيما لا أحد يريد أن يصف أنّ ما يحدث في بقعة صغيرة من الأرض (غزّة) فاق ما حدث في الحرب العالمية الثانية، وأنّ ما سقط من قنابل وصواريخ وقذائف، وما أُطلق من رصاص هو ضعف ما سقط على برلين وستالينغراد ولندن وهيروشيما وناكازاغي قبل 80 عاما.
لقد أنتجت الحرب العالمية الثانية نظامًا دوليًا معقّدًا وغير قابل للضبط أو الانتظام، وقوى دولية عرفت جيّدًا كيف تستغل ضعف دول وشعوب أنهكتها الحروب، كي تبعد شبح الحرب عنها. وإن كان لا بدّ من الحروب، فلتكن بين دول "المستويين الثاني والثالث"، المسمّاة بالقوى الصاعدة والنامية ودول العالم الثالث، أو بين "القوى الكبرى" لكن على أراضي الآخرين، وذلك حتى يبقى نسق ما بعد الحرب العالمية الثانية ثابتًا، وتُرسم الخرائط والمخطّطات بدماء الشعوب الضعيفة فقط.
صحيح أن لا حرب عالمية ثالثة يعيشها العالم حاليًا، ولو أنّ روسيا والصين لوّحتا بها أكثر من مرّة، كردّ على "استفزازات أميركا"، لكن العالم مليء بالحروب والدمار، ولا تكاد قارة واحدة تعيش هادئة إلا في ما ندر، ما يعني أنّه أصبحت للحرب أشكال أخرى ومناطق محدّدة، لذا، ربما نعيش الفصل الثالث من الحرب العالمية من دون القدرة على وصفها بـ"الحرب العالمية الثالثة" بشكل صريح.
ربما نعيش الفصل الثالث من الحرب العالمية من دون القدرة على وصف ذلك بـ"الحرب العالمية الثالثة" بشكل صريح
واليوم، هذا النظام الدولي بعلاقاته ونظرياته ومؤسّساته، بدوله وبأفراده، بقواه الكبرى والمتوسّطة والضعيفة، بمنظماته الدولية، والذي وُلد في سياق الحرب، لا يُريد أن يرى أنّ حربًا في غزّة، وكلّ فلسطين أيضًا، فتكت بالبشر والحجر والشجر، وجوّعت أزيد من مليون إنسان، وقتلت أكثر من خمسين ألفا، مُعظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، ولا يريد أن يرى أنّ حصار إسرائيل لقطاع غزّة فاق حصار الألمان لمدينة ستالينغراد في السنوات، وفي كلّ شيء، وأنّ المجاعة بسبب الحرب الأخيرة فاقت كلّ مجاعات أوروبا خلال الحرب العالمية، ولا يريد أن يعرف أنّ الهولوكوست الحقيقي هو الذي يحدث اليوم في هذه البقعة. والحديث هنا عن حرب لم تبدأ قبل سنتين، بل عن إبادة مستمرة منذ أزيد من 77 عاما.
لقد وُلدت بعد الحرب العالمية الثانية دولة هي عبارة عن برميل بارود متفجّر غير قابل للضبط، اعتبرتها ألمانيا بمثابة كفّارة عن ذنوبها، قائمة على أسس عنصرية دينية وعرقية، ولا يمكن لها الاستمرار إلا على الحروب والدماء في الشرق الأوسط بكامله، وربما في العالم كلّه، وهذه الدولة اليوم هي الخطر الفعلي والحقيقي الحالي والقادم.
من المؤكّد أنّ نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد صالحًا لهذا العالم، وأنّ موازين القوى لا بُدّ أن تُضبط وفق قواعد أخرى، كما أنّ استمرار العيش على أطلال المحرقة النازية وعلى مظلومية اليهود في أوروبا (وهما حدثان لا يمكن إنكارهما) بات تجارة مربحة وعملية ابتزاز علنية ومباشرة من إسرائيل لكلّ العالم، فيما هي، ومن معها، ترتكب أفظع المحارق والمجازر التي تُنقل عبر الشاشات، لكن لا أحد، من صُنّاع هذا النظام الدولي، يريد أن يرى أو يسمع.
إنّ المشكلة الحقيقية ليست في تشخيص أعطاب النظام الدولي والإقرار بفشله وعجزه وعواره، بل هي في كيفيّة إصلاح هذه الأعطاب، وإعادة ضبط القوى وموازينها، بما يسمح بتحقيق ولو قليل من الشعارات والأحلام التي بُني عليها النظام الدولي بعد الحرب العالمية، وسيكون من الترف والمثالية الحالمة القول إنّ الدبلوماسية والحوار بين الدول الكبرى قادران على خلق نظام دولي جديد في الوقت الحالي. في المقابل، لن تكون هناك أيّة مفاجأة إن تغيّر النظام الدولي عبر حرب عالمية جديدة، من دون أن يدري أحد إن كانت ستكون حربًا لإسقاط قوى عظمى وبناء عالم جديد بأقطاب متعدّدة أو من دون أقطاب، أم حرب نهاية العالم، خاصة أنّ حرب أوكرانيا أعادت التذكير بأنّ الكوكب فيه من السلاح النووي ما يكفي لإبادتنا جميعاً.