ARTICLE AD BOX
في سفح جبل حراء.. حيث نزول الوحي الأول على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، يقوم اليوم صرحٌ حضاري وثقافي وروحاني من الطراز الرفيع. إنه "متحف حراء 2025"، أحد أبرز مشاريع الهيئة الملكية لتطوير مكة المكرمة والمشاعر المقدسة، والذي يجسّد التقاء التاريخ بالإيمان، والعلم بالوحي، والتقنية بالروح.
المفهوم والرؤية
متحف حراء ليس مجرد مبنى أو قاعات عرض، بل هو رحلة عبر الزمن تمتد منذ لحظة نزول الوحي وحتى اليوم، تتبّع خلالها مراحل تدوين القرآن الكريم، والعناية الفائقة به كتابةً وتفسيراً وحفظاً وتجويداً. وقد أُعد المتحف ليكون مركزاً عالمياً يعكس الجوانب العلمية والفنية والجمالية والروحية المرتبطة بالقرآن الكريم.

عند دخول الزائر إلى المتحف، يبدأ المشهد بقاعات تحاكي لحظة الوحي الأولى، في أجواء سمعية وبصرية تُجسّد قصة غار حراء، تلك اللحظة الفاصلة في تاريخ البشرية، حين خاطب جبريل الأمين النبي (ص) بقوله: "اقرأ".
ثم تبدأ رحلة عبر الزمن توثق تاريخ جمع القرآن، من عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)

يضم المتحف مكتبة ضخمة لأمهات كتب التفسير، يتجاوز عددها ألف كتاب، تعكس ثراء التراث الإسلامي في التعامل مع النص القرآني فهمًا وتدبّراً وتأويلاً، وتُعرض هذه التفاسير في أجنحة مرتبة حسب المدارس الفكرية والمذاهب الفقهية، ويتيح المتحف تصفحاً رقمياً تفاعلياً لمعظم هذه الكتب، مع إمكانية البحث الصوتي وترجمة الشروح بلغات عالمية.

من أكثر ما يلفت انتباه الزائر تلك المخطوطات القديمة التي تعود لقرون متقدمة من التاريخ الإسلامي، مكتوبة بالحبر الأسود والذهب، وعلى أنواع متعددة من الرق، بخطوط كوفية ونسخية نادرة، تُعرض داخل خزائن زجاجية محكمة في قاعات مهيبة.
تُظهر هذه المخطوطات مراحل تطور الخط العربي، وأساليب التجليد والتذهيب، كما تضم نسخاً من المصحف القيرواني، والدمشقي، والمغولي، والمملوكي.

يفتخر المتحف بعرض إحدى الكسوات الأصلية للكعبة المشرفة، مطرّزة يدوياً بخيوط الذهب والفضة، ويُعرض إلى جانبها شرحاً تفصيلياً لتاريخ الكسوة.

وفي أحد أجنحة المتحف، يعرض مجسم مطابق تماماً ا لباب الكعبة المشرفة، مصنوع من نفس المعادن المستخدمة في الأصل، يُتيح للزوار التقاط الصور وتكوين تجربة حسية بصرية قريبة من المشهد الحقيقي في المسجد الحرام. يترافق ذلك مع شروحات حول تصميم الباب وزخارفه القرآنية.

ضمن القيم الرمزية والجمالية، يقف مجسم لشجرة الزيتون المباركة، والتي ذكرها الله في القرآن بقوله: "يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية".
هذا المجسم يجسد المعنى الروحي للبركة في حياة الإنسان، ويرتبط بجناح تعليمي عن النباتات التي ورد ذكرها في القرآن، كالتين، والرمان، والنخل، والعنب، والحنظل، وغيرها.
أكبر مصحف في العالم
في قاعة شاسعة ذات سقف مرتفع، يعرض أكبر مصحف في العالم مكتوب بخط النسخ اليدوي، وهو عمل فني ضخم استغرق سنوات من الإعداد، دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية، وتعرض صفحاته بشكل متتابع داخل هيكل دوار، مما يُتيح للزوار رؤية الخطوط الجميلة ووضوح الرسم العثماني.
السينما القرآنية التفاعلية
حرص المتحف على استخدام أحدث وسائل التقنية، فخصص سينما بانورامية ضخمة، تقدم أفلامًا تعريفية مترجمة حول القرآن الكريم، نشأته، إعجازه، تأثيره في الفنون والآداب، وطرق قراءته وتجويده، وانتشاره في قارات العالم، إضافة إلى محتوى موجه للأطفال بلغات متعددة.
الكرة الأرضية لقراء العالم
وفي زاوية مبتكرة، تقف كرة أرضية عملاقة، تعرض أسماء أشهر قراء القرآن حول العالم، من آسيا وإفريقيا وأوروبا والأمريكتين، مع تسجيلات صوتية لهم، ونبذة عن حياتهم، ومدارسهم في التجويد والروايات (حفص، ورش، قالون، الدوري).
الخط العربي من أوله إلى آخره
من الأجنحة المميزة أيضًا، قاعة الخط العربي، التي تعرض تاريخ تطور الخط القرآني، منذ الخط الحجازي والكوفي، إلى الثلث والنسخ والرقعة والديواني، مع تفاعل حيّ عبر شاشات تعليمية وقلم رقمي يمكن للزائر من خلاله تجربة كتابة الآيات بنفسه.
الحديقة القرآنية
وبعد الرحلة الطويلة داخل القاعاتغ، يفجد الزائر نفسه في حديقة قرآنية خضراء، تتوسطها شجرة زيتون أصلية، وبحيرة صغيرة، ومقاعد تحيط بها مكبرات صوت تُشغل آيات قرآنية مختارة بتلاوات عذبة، في جو يعزز التأمل والسكينة.
إن "متحف حراء 2025" ليس مجرد معلم ثقافي، بل هو رسالة روحية عالمية تنطلق من مكة إلى قلوب العالم، لبيان عظمة هذا الكتاب المبارك الذي "لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه".
هو شاهد حي على ما بذله المسلمون من جهد لحفظه، وخدمته، وفهمه، ونشره، وعلى ما يحمله من رسائل الرحمة والهداية والعدالة لكل البشر.
