ARTICLE AD BOX
مراراً، كنتَ تُسأل عن البداوة في الأردن، وما إذا كان الأردنيون يتجوّلون في شوارع مدنهم بالزي البدوي الذي تعوّد المشاهد العربي على رؤيته في مسلسلاتهم البدوية التي عرفت انتشاراً كبيراً في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته. ولمّا كنت تنفي، كنت تُسأل عن المخابرات والجيش، وهل هما بمثل هذه السطوة في الحياة العامة، كما ترسّخت صورتاهما لدى شرائح واسعة من الرأي العام العربي؟
هذا هو الأردن في صورته النمطية، وهو غير ذلك في حقيقته وفي شوارع مدنه وبلداته، والبداوة أيضاً هي ذات صلة بالريف والفلاحة أكثر منها بداوةً خالصة، فضلاً عن كونها لفظت أنفاسها منذ عقود، وتحوّلت إلى موروث ثقافي وقيمي يعتز بها الجميع من دون أن يعني ذلك أنه يحكم حياتهم "المعاصرة"؛ فأبناء العشائر الأردنية، وسواهم بالطبع، هم حالياً أبناء جامعاتهم ومدنهم الحديثة وأزيائهم المعاصرة، والثري منهم يبتاعها من لندن وباريس، كما يفعل أي ثري في المنطقة والعالم.
يعتبر الكاتب مصطفى صالح، وهو قاص من جيل السبعينيات ذي البصمة التأسيسية والحداثية في تاريخ الأدب الأردني، واحداً من قلة ممن واكبوا حقبة البداوة في الدراما الأردنية، بل إنه من منتجي صورتها الكبار. كتب صالح العديد من المسلسلات التي كانت فيها الفتيات البدويات بعيون كحيلة وجميلة وهن يَرِدن ماء العين للسقاية، وهي صور فاتنة بالمناسبة ولا أعرف واقعيتها، إذ لم يسبق لكاتب هذا المقال أن صادف بدوية حسناء في مسلسل أردني كتبه صالح أو سواه، تشكو من تسوّس أسنانها مثلاً، أو تشققاً في أظافرها، فليس ثمة وقت لهذه الأمور، بل للسُّهاد بسبب العشق والوله وطول التفكير في سبل رد كيد الحاسدين الذين يمكرون ويتآمرون.
هل يُلام كتّاب الدراما؟ ليس هذا هو السؤال، بل الإصرار على إنتاج صورة محددة عن بلاد تمتلك فائضاً من التنوع والتعدد في مكوناتها، خاصة العاصمة عمّان التي بناها الشركس وسكنها شوام وفلسطينيون في هجراتهم، وأردنيون من قراهم وأرمن وتركمان وسواهم. وربما يعود الإصرار على حشرها في صورة واحدة في مرحلة معينة إلى أسباب تتعلق بمقتضيات الإنتاج الدرامي وعوائده، وكانت مجزية في مرحلة ما، ما أغرى بالمضي فيها والتنويع داخلها من دون الخروج من عباءتها. إضافة إلى أسباب أخرى أكثر تعقيداً تتعلّق بطبيعة العلاقة بين السلطة والفنون عامة في الأردن، وهي نظرة كانت متقدمة في الماضي، وأخذت بالتدهور المريع في السنوات الأخيرة، وتقصر الفن على الترفيه الذي لا يجلب "وجع الرأس"، فتناوُل القضايا المعاصرة، الحياتية، الراهنة، التي تكتنز بتناقضات التحوّلات الكبرى والعسيرة في المجتمع، قد يجلب المشكلات، ويضيء مواقع الخلل أو الضعف، ما يرى بعض القائمين على الأمور أنه لا يليق، رغم أن هذه بطبيعتها دراما مكثفة، ومغرية للتناول والتجريب.
ثم جاء بعد ذلك الجهل وقلة الموارد معاً، فانتهى الأمر بشركات الإنتاج الأردنية للتحول إلى منتج منفذ لشركات أو قنوات تلفزيونية عربية، ما غيّب الأردن درامياً ورسَّخ في الوقت نفسه صورته النمطية.
ماذا يفعل مصطفى صالح والحال هذه؟ بغريزة الكاتب يلتقط المتغيّرات. يبدأ برصد تحوّلات المدينة (عمّان) منذ الخمسينيات إلى نهاية تسعينيات القرن الماضي، في مسلسل "شارع طلال" الذي تكوّنت فيه الطبقات، وانصهرت في بقالاته ودكاكينه ومطاعمه الهجرات، مُمنتجة هوية البلاد القائمة على التعدد والتنوّع، لكن المسلسل الذي بدأ عمليات إنتاجه 2021 وانتهى 2024، لم يقيّض له البث على شاشة التلفزيون الأردني.
المسلسل يتناول التحولات في البلاد منذ تولي الملك الأردني الراحل، الحسين بن طلال، مقاليد الأمور في البلاد حتى وفاته، في نحو 90 حلقة (كل موسم 10 حلقات)، وفيه ترى مختلف مكونات المجتمع الأردني وصراعاتها الصغيرة التي أنتجت انسجامها داخل وحدتها، أو هكذا فهم الكاتب الذي لم يقيّض له مشاهدة المسلسل لأنه لم يُعرض أصلاً، ولا تقل لي إن السبب محدودية المخصصات المالية للأعمال الدرامية في مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الأردنية، وهي بالمناسبة قليلة جداً (نحو مليون دينار من أصل 27 مليوناً هي ميزانية المؤسسة).
يكتب مصطفى صالح مقالاً قصيراً يسأل فيه لماذا، فإذا لم يُعرض تاريخ الأردن على "شاشة الوطن" فهل يُعرض على شاشة موزمبيق؟ هو يسأل ونحن كذلك نفعل.
