ARTICLE AD BOX
بعد إدراجها أعمال محمد شكري الروائية والقصصية في مناهجها الدراسية بشكل رسمي، تكون جامعة ييل قد اخترقت حدود النظرة الاستشراقية الضيّقة التي دفعت مفكراً مثل إدوارد سعيد إلى اعتبار الأدب العربي أدباً محظوراً في الولايات المتحدة. جاء ذلك في مقالته الشهيرة "الأدب المحظور" التي نشرها في مجلة "نيشن"، وتحدّث فيها عن الحصار الذي يعانيه الأدب العربي على صعيد النشر والتغطية الإعلامية، حيث كانت تسود لدى دور النشر والمجلات والمؤسسات الأميركية نظرة موروثة من الاستشراق التقليدي، شبَّهها المترجم روجر آلن بنظرة سريعة إلى منظر طبيعي من الطائرة أثناء العبور فوقه.
يُعدّ الروائي المغربي محمد شكري علماً بارزاً في المشهد الأدبي العربي، إذ حقّقت رواياته شهرة كبيرة لتمرّدها على المحظور والمحرّم في التجربة الروائية العربية، وانطلاقها نحو الواقع الحي، حيث خلط شكري طحين السرد بخميرة وماء الواقع، فعجن بذلك رغيف النصّ.
ينطلق شكري من المادة الخام إلى الفكرة، ومن مآسي الواقع إلى الكلمة، ما حرّره من رؤية الواقع عبر عدسات الأيديولوجيات والأفكار المسبقة التي تفرض عليه حجاباً. لقد صوّر الواقع عارياً، ومنعه من أن يتستّر حتى حين حاول ذلك. استكشفه من خلال شخصياته المهمَّشة التي لطالما صودرت هويتها وتحدّث الآخرون باسمها. غير أن شكري، من خلال تحريره للغة المهمّش والمكبوت وتناوله مواضيع محرّمة، ضخّ نسغاً جديداً في جذع الرواية العربية، وابتكر لغة سردية وسّعت من أفقها التعبيري.
بدأت جامعة ييل تدريس روايات شكري عام 2019، لكن الأمر اتخذ طابعاً أكثر اكتمالاً في مطلع عام 2025، إذ أصبحت أعماله جزءاً أساسياً من المنهج الجامعي. وقد مهّد لذلك مؤتمر ضخم نظمته الجامعة عن محمد شكري، تولّى تنظيمه المترجمان المعروفان روجر آلن وجوناس البستي، واستُضيف فيه عدد من الباحثين والأكاديميين الأميركيين المختصين بأدبه.
لدى دور النشر الأميركية نظرة موروثة من الاستشراق التقليدي
نُشرت وقائع المؤتمر في كتاب بعنوان "قراءة في الأعمال الروائية والقصصية لمحمد شكري: جوع في الفردوس"، حرّره البستي وآلن، وصدر باللغة الإنكليزية عن دار "روتليدج" عام 2024.
ضمّ الكتاب مساهمات أكاديميين من عدّة جامعات أميركية، منهم: قصي العتابي، وحنان بنودي، وإيان كامبل، وأنور التونسي، وتوريا خنوس، وناتالي غزال، ومبارك شريفي. وقد صرّح المشرفون على المنهج الدراسي في الجامعة بأن شكري يُعدّ شخصية محورية في الرواية المغربية في القرن العشرين، واستشهدوا بكلام المسرحي الأميركي تينيسي ويليامز عن سيرته الذاتية "الخبز الحافي"، التي وصفها بأنها "وثيقة حقيقية لليأس البشري، مُحطِّمة في تأثيرها".
ورغم الانتقادات الرسمية الموجّهة إلى شكري بسبب تصويره للمعاناة الإنسانية، والفقر، والدعارة، والمثلية الجنسية، إلا أن نصوصه انتشرت في العالم العربي، وألهمت الفنانين والكتّاب، وفق ما أكده الأكاديمي والمترجم جوناس البستي لـ"العربي الجديد"، الذي أضاف: "نظراً لأهمية منجز شكري في الأدب العربي الحديث، قرّرت الجامعة تدريس أعماله لطلابها".
ولدى سؤال "العربي الجديد" لعدد من طلاب جامعة ييل عن رأيهم في هذا التوجّه، قال الطالب سام ينكي "استفدت كثيراً من فرصة قراءة أعمال محمد شكري، ورؤية جانب من المغرب لم يكن ظاهراً أثناء زيارتي له". أما الطالبة ميراي لكتيني، فقالت "إن دراسة أعمال محمد شكري في الجامعة تجربة مهمة وفريدة. ما يميّز هذه التجربة هو أن التدريس يركّز بالكامل على مؤلف واحد، ما أتاح لنا قضاء فصل دراسي كامل في قراءة ونقاش أعماله، ومكّننا من تأمّلها بعمق، خلافاً للمقررات المعتادة التي تتنقل بين مؤلفين عديدين".
من جهته، قال الطالب كورماك ثورب "إن قراءة أعمال محمد شكري خلال الدراسة الجامعية تجربة ثرية. استخدامه الفريد للغة يُحيي عالم طنجة الهامشي. وتُجسّد ثلاثيته أدباً شخصياً متفرداً ونقداً سياسياً حاداً في آنٍ واحد. تعلّمت الكثير عن العلاقة بين المكان والسياسة والمشاعر". أما الطالب جستن هسّي، فقد ركّز على خلفية محمد شكري قائلاً: "هذه القراءات وفّرت لنا نحن طلاب اللغة العربية فرصاً للتعلُّم والتأمل. فمن ناحية، شكّلت فرصة للقراءة والكتابة والبحث باللغة العربية الفصحى من خلال الانغماس في أدب أحد أبرز كتاب العالم العربي. ومن ناحية أخرى، فإن شكري كاتب يتحدى المفاهيم السائدة حول الأدب ودور اللغة العربية، خصوصاً أنه كان كاتباً أمازيغياً مهمَّشاً اجتماعياً واقتصادياً، ولم يتعلم الكتابة باللغة العربية إلا في وقت لاحق من حياته".
إثراء النقاش حول نزع الصفة الإنسانية والظلم الاجتماعي
الأستاذ الجامعي المغربي جوناس البستي، الذي يدرّس أعمال شكري في جامعة ييل، ويقوم حالياً بترجمة أعماله الروائية الكاملة إلى الإنكليزية - وقد صدر منها حتى الآن "وجوه"، الجزء الثالث من السيرة الذاتية، و"حكايات طنجة" الذي يجمع مجموعتي "مجنون الورد" و"الخيمة" - قال إن الطلاب يتعمقون في نصوص شكري ويحللونها ويركزون على أهميتها الثقافية والسياسية. وأوضح أن قصة حياة شكري تكشف عن جذور شغفه بالكتابة، وتتيح استكشاف ثقافة زمنه والأماكن التي كتب عنها. وأضاف: "من خلال دراسة رواياته وقصصه القصيرة، يعزّز الطلاب فهمهم للبيئة السياسية والاجتماعية التي كتب ضمنها، في ظل النقاشات الجارية حول الهوية، والفقر، والاستبداد، والإرث الاستعماري. باختصار، يشمل هذا المقرر الجامعي جميع أعمال شكري ويضعها ضمن سياق التراث الأدبي العربي".
وختم البستي بالإشارة إلى أن تعريف طلاب جامعة ييل على نصوص شكري أمر بالغ الأهمية في سياق تعليمي وأكاديمي، لما يمثله من صوت مختلف يتحدى الرقابة والتهميش. وأوضح أن تدريس أعماله يساهم في إثراء النقاش حول نزع الصفة الإنسانية، والظلم الاجتماعي، والعنف المؤسسي. كما أضاف أن الجديد هذا العام هو إدخال عنصر التفاعل الشخصي، إذ استُضيف في الصفوف طارق شكري (ابن أخ محمد شكري)، والروائي محمد برادة (صديق شكري)، والصحافيان المغربيان عبد اللطيف بن يحيى ومحمد بو خراز، وذلك لإتاحة الفرصة أمام الطلاب لطرح الأسئلة ومعرفة تفاصيل لا تتوافر في المصادر الأدبية. وقد ساهم ذلك في جعل التجربة أكثر تفاعلاً وعمقاً، وسجّل لحظة أكاديمية فريدة في تاريخ جامعة ييل الحديث.
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة
