"مدينة النعاس".. بين ظلام التقدم وظلال الاستعمار

1 week ago 6
ARTICLE AD BOX

شهدت مؤخراً العديد من المدن في إسبانيا والبرتغال حالة من الظلام التام بعد انقطاع مفاجئ للتيار الكهربائي، ما أدخلها لساعات في دوامة من القلق والارتباك. هذه الحادثة النادرة لم تكن مجرّد عطل فني عابر، بل كشفت عن مفارقة حضارية غريبة: في الوقت الذي كانت فيه إسبانيا تئنّ تحت وطأة هذا الظلام، اضطرت إلى الاستعانة بالمغرب، جارها الجنوبي، من أجل تزويد بعض مدنها المتوسطية بالكهرباء. هذا التعاون بين البلدين قدّم صورة مضادة للاعتقاد السائد بأن العالم المتقدّم يظل على الدوام في منأى عن العطب، بينما يستمرّ الجنوب متأخراً عن أي تقدّم.

هنا تكمن إحدى المفارقات المثيرة للتأمّل؛ فالمغرب، الذي لطالما وُصِف بأنه يعيش في "عصور الظلام" في العديد من الكتب الاستشراقية الإسبانية، أصبح اليوم على الأقل بإمكانه تزويد أحد جيرانه ببعض الطاقة الحيوية. هذا التغيير يطرح أسئلة عميقة حول التاريخ والتطوّر الحضاري، ويسلّط الضوء على الديناميكيات المعقّدة التي تربط بين الشمال والجنوب في العصر الحديث.

في هذا السياق، ربما يبدو من الضروري العودة إلى بعض النصوص الإسبانية التي لطالما صوّرت المغرب بلداً "مُظلماً" وغير قابل لاستيعاب الحضارة، مثل كتاب "مدينة النعاس: رحلة إلى داخل المغرب" لأنطونيو دي سان مارتين (1841 - 1887)، الذي يعكس بوضوح الصورة الاستشراقية السائدة عن المغرب في القرن التاسع عشر. هذا الكتاب الذي صدر بطبعة عربية عن المركز الثقافي العربي، بترجمة مصطفى الورياغلي، صوّر المدينة المغربية، والبلد بأكمله، مكاناً غارقاً في الظلام والسكون، أو رمزاً للجمود الثقافي الذي كانت أوروبا تعتبره سمةً من سمات الجنوب.

توطيد للفجوة الثقافية وتغييب للتفاعل الإنساني عنه

"مدينة النعاس" هو نصٌّ يتجاوز كونه مجرد سجلّ لرحلة جغرافية، بل هو في جوهره نصٌّ استشراقي بامتياز، يُعيد تشكيل الواقع المغربي وفقاً للرؤية الاستعمارية. هو عبارة عن وثيقة تصوّر المغرب ليس كما هو، بل كما يراه الغربيون في تلك الحقبة. سان مارتين لا يكتفي بتسجيل مشاهداته بصفته رحّالة، بل يعيد صياغة هذه المُشاهَدات في قالب يتماشى مع تصوّراته الاستعمارية حول الشرق: "مدينة النعاس" ليست مدينة عادية، بل هي كائن ثقافي يعيش في حالة سُبات، يحتاج إلى صحوة تكنولوجية أو حضارية من اليد الأوروبية. هذه الرؤية التي عكست مواقف الاستعمار في القرن التاسع عشر، هي التي شكلت بالأساس جزءاً كبيراً من الثقافة الأوروبية تجاه المستعمرات.

لقد أراد مارتين في كتابه أن يُظهر أن المغرب لم يكن متأخّراً عن الغرب في تطوره الحضاري فحسب، بل كان في حالة من السكون التامّ، إذ يشير العنوان نفسه "مدينة النعاس" إلى فكرة الجمود: مكان لا حياة فيه ولا حركة، بؤرة خامدة تحتاج إلى "إيقاظ" أوروبي. من هنا يبدأ التأمل النقدي في مثل هذه النصوص: كيف يمكن أن نرى فيها تجسيداً للعنصرية الثقافية التي كانت سائدة في تلك الفترة؟ وكيف أن هذه التصوّرات عن الجنوب تظلّ تتخلّل فكر البعض في عالمنا المعاصر، وتحتفظ بالصور النمطية ذاتها التي رُسمت منذ قرون.

ما يميّز الكتاب هو كيفية توظيف سان مارتين للُّغة أداةً لتأكيد صورته الاستعمارية. فهو لا يقدم مجرد تقارير باردة عن الأماكن، بل يعيد تشكيل هذه الأماكن باستخدام الخيال الذي يحمل أجندات أيديولوجية واضحة، عبر الأوصاف التي تميز سكان المغرب بأنهم "حيوانات نادرة من فصيلة مجهولة"، كما يصف في مشهدٍ من الكتاب، نجد أن اللغة ليست مجرد وسيلة لرصد الواقع، بل أداة لفرض التفوق الأوروبي وتأكيد نظرية "الآخر" البدائي والمتخلف، إذ إنّ المغرب في وصفه يُقدّم بوصفه "مسرحاً غرائبياً" بامتياز، إذ يُصوَّرُ مكاناً خالياً من التنظيم أو أي شكل من أشكال الثقافة الحقيقية.

هذه الصورة الاستعمارية التي سادت لقرون عدّة هي جزء من بناء تصوّر أوروبي عن العالم العربي، العالم الذي كان في نظر العديد من المفكّرين الأوروبيّين، مثل إدوارد وليم لين، وغيرترود بيل، وروديارد كيبلنغ، غير قابل للفهم أو التفسير. تلك الصور التي جرى تثبيتها عن الجنوب لا تقتصر على كونها وصفاً للواقع، بل هي في جوهرها تصوّرات تصنع هذا الواقع وفقاً للأيديولوجيا الاستعمارية، إذ يصبح الكتاب أكثر من مجرّد رحلة، إنما هو إعادة هندسة ثقافية، تفرض هيمنة الثقافة الأوروبية على الآخر الشرقي، وتجعله في مكانٍ دائمٍ من الحاجة إلى التوجيه والسيطرة.

يُرسم الجنوب مكاناً نائماً نوماً أبدياً ينتظر من يهبّ لإيقاظه

إذا نظرنا إلى الكتاب من زاوية أُخرى، نجد أن غياب التفاعل الإنساني في النصّ هو نقطة محورية لفهم كيفية بناء الفجوة الثقافية بين الكاتب الإسباني والمغاربة، على الرغم من طول الرحلة وثراء المشاهد، لا نلمس أي حوار حقيقي بينه وبين المغاربة أو تأملات نقدية عميقة في ثقافتهم، بل نجد أن جميع الأوصاف هي أحكام قطعية ومجتزأة، لا تتجاوز حدوداً سطحيةً تتعلق بالغرابة والتوحّش.

الحديث عن الطعام، والضيافة، والاحتفالات، والطقوس لا يُقدّم سوى صورة مشوّهة لما يحدث بالفعل في هذه المجتمعات؛ الطعام يُقدّم في ظروف غير صحية، والضيافة على الرغم من أنها تُذكَر إيجابياً، إلّا أن تقديمها يُصوّر بطريقة "بدائية". الموسيقى، التي هي جزء من الثقافة المغربية العريقة، تُشوَّه وتوصف بأنها مجرد ضوضاء لا ترتقي إلى مرتبة الفن، وكل هذه الأوصاف تُظهر أن الكتاب لا يمتّ بصلة حقيقية إلى فهم الثقافة المغربية، بل يُعبّر عن رؤية ثقافية أيديولوجية تتعمد تصوير الآخر بطريقة تجعله موضوعاً للاستكشاف والنقد، لا للتفاهم أو التأمل الجادّ.

يجب أن نقرّ بأن "مدينة النعاس" ليس مجرد وثيقة تاريخية، بل هو نصّ يصوّر "الآخر" وفقاً لمخطّطات استعمارية متأصلة في الفكر الغربي في تلك الحقبة. واليوم، بعد مرور أكثر من قرن ونصف القرن على تأليفه، وعند قراءتنا لهذا النصّ، يُمكننا أن نرى كيف أن هذه التصوّرات الاستعمارية لم تنتهِ بعد، إذ لا تزال تنبض في العديد من الأعمال الأدبية والفكرية التي تنظر إلى العالم العربي بصفته فضاءً خارجياً، لا يرتقي إلى تطوّر الحضارة الغربية. وفي هذا الصدد، قد تُتيح لنا مقارنة الكتاب بحوادث مثل انقطاع الكهرباء في أوروبا الحديثة فرصة للتأمل في كيف أنّ الغرب، رغم تقدمه التكنولوجي، قد يبقى محاصراً في تصوّراته الاستعمارية التي ترسم الجنوب مكاناً نائماً نوماً أبدياً ينتظر من يهبّ لإيقاظه.

إذا كانت أنظمة الكهرباء قد تعطّلت في دولتين فحسب من دول أوروبا الحديثة، فإنها في المقابل لم تتعطّل في "مدينة النُّعاس"، على بُعد أقلّ من 15 كيلومتراً من حدودها، التي يبدو أنها اليوم لم تعد كما كانت في حالة من السكون والتوقف، كما تصوَّرها كتاب سان مارتين في القرن التاسع عشر. هذه المقارنة بين الظلام الذي حلّ فجأة على العالم المعاصر وظلال الكتاب الاستشراقي يفتح لنا نافذة لطرح الأسئلة حول كيف يمكن أن تستمرّ هذه التصوّرات في التأثير على فهمنا لعلاقات الشمال بالجنوب. وكما يُواجه العالَم الآن تحدّياته التكنولوجية، يبدو أن الرحلة الاستشراقية في "مدينة النعاس" تظل كما هي: نصاً تجب إعادةُ قراءته بعين ناقدة، لإعادة تقييم الاستعمار وما يعكسه من صور نمطية ما زال بعضها مترسخاً للأسف في المخيال الغربي.


* شاعر من المغرب

Read Entire Article