ARTICLE AD BOX
لطالما كان هناك افتراضٌ، بغض النظر عن مدى دقته، بأن الولايات المتحدة تتمتع بضوابط قانونية تشمل الفصل بين السلطات، وحماية دستورية قوية، وأنه لا أحد فوق القانون، لكن دونالد ترامب نجح في زعزعة ذلك.
منذ توليه منصب الرئاسة في الولايات المتحدة قبل أكثر من ثلاثة أشهر، لم يتوقف دونالد ترامب عن إصدار الأوامر التنفيذية المختلفة، وعمل على تنفيذ سياسات تقيد حقوق الإنسان وعمل المنظمات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة، والهجوم على النظام متعدد الأطراف، كالمحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، واتخاذ خطوات للانسحاب من معاهدات واتفاقيات دولية كاتفاقية المناخ.
ليس الأمر جديداً مقارنة مع فترة ولايته الأولى (2017 ـ 2021)، لكنه أكثر كثافة، ويشمل تكثيف القمع في الداخل الأميركي، بما في ذلك سحب إقامات وتأشيرات عشرات الطلاب الجامعيين لمجرد اشتراكهم في تظاهرات أو تعبيرهم عن رأيهم على وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً معارضي الحرب الإسرائيلية على غزة والدعم الأميركي لها، إضافة إلى عمليات الترحيل واسعة النطاق للمهاجرين، ويشمل ذلك ترحيل قسم منهم إلى سجون في السلفادور.
ومثلما تهاجم الإدارة الحالية المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها، وقد حدث ذلك خلال فترة حكم بايدن أيضاً، فإن إدارة ترامب تهاجم أيضاً المدافعين عن حقوق الإنسان في الداخل الأميركي، ومن بينهم قضاة وحقوقيون، ما يشكل تهديداً حقيقياً لاستقلالية القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات، على الرغم من كل الشوائب التي لا يستهان بها.
ويوضح مدير قسم حقوق الإنسان في الاتحاد الأميركي للحريات المدنية (ACLU)، جميل دكور، لـ"العربي الجديد"، أنه "في الوقت الذي تهاجم فيه الولايات المتحدة المنظمات الدولية والنظام متعدد الأطراف، فإنها تواجه مشاكل داخلية مع صعود الفاشية والاستبداد. ما يحدث حالياً لا يتوقف عند تجاهل القانون الدولي فحسب، فواشنطن فعلت ذلك لعقود، بل إن الإدارة الحالية تتجاهل القوانين الأميركية".
ويشير دكور إلى مناخ مشابه لما شهدته الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وما قامت به ضد الأقليات المسلمة والعربية وغيرها تحت شعار "مكافحة الإرهاب"، ويلفت إلى أن الولايات المتحدة آنذاك لم تنتهك القانون الدولي فحسب، بل انتهكت القوانين المحلية والدستور الأميركي.
يمكن ربط سياسات ترامب القمعية برغبات وتطلعات اليمين الأميركي
يضيف: "الفارق أن ما نشهده الآن يحدث على نطاق أوسع، ويهدف إلى تقليص فرص وجود معارضة حقيقية، أو مساحة للاعتراض، وأعتقد أن هذا جزء من هدف الإدارة الحالية المتمثل في قمع وتحييد أي أصوات معارضة، سواء كانت صادرة عن النظام السياسي، أم عن المجتمع المدني، أو الهيئات القضائية، كي تتمكن من تنفيذ ما قالت إنها تريد تنفيذه خلال الحملة الانتخابية، أو من خلال (مشروع 2025)، من دون أي مقاومة أو معارضة حقيقية".
ونفى ترامب مراراً خلال حملته الانتخابية أن تكون خططه لمستقبل أميركا ملتزمة بـ"مشروع 2025"، والذي أطلقته مؤسسة "هيريتيج" ورئيسها المحافظ كيفن روبرتس في كتاب صدر عام 2023، وضع خريطة طريق للفائز بالانتخابات الرئاسية من الحزب الجمهوري، ومن بين ما طرحه حجب الرئيس ميزانيات وكالات معينة، حتى لو قرر الكونغرس تمويلها، وتوظيف الموالين للرئيس والتخلص من "الدولة العميقة"، بما فيها الموالون لإدارة بايدن.
وقسم لا بأس به من تلك الخطط حدث بالفعل خلال المائة يوم الأولى لإدارة ترامب، بل يرى محللون أن ترامب ذهب أبعد من ذلك، والأمثلة كثيرة، ومن بينها قمع حرية التعبير، وملاحقة المدافعين عن حقوق الفلسطينيين بذرائع "معاداة السامية"، وفرض التعرفات الجمركية، وتقليص الوزارات بحجة محاربة البيروقراطية، وتوظيف عدد ممن عملوا على المشروع 2025 ضمن الإدارة الجديدة.
ويؤكد جميل دكور أن الولايات المتحدة تنخرط لأول مرة منذ حملة الترهيب والملاحقات خلال "الحقبة المكارثية" في سياسات قمع ممنهج، وتمارس ما تقوم به دول استبدادية، كسحق المعارضة، وملاحقة المحامين والنشطاء والقضاة، وانتهاك حقوق الإنسان الأساسية، والانخراط في انتهاكات جماعية، والمراقب للمشهد الأميركي يلحظ أن تصعيداً يلوح في الأفق.
ويشير دكور إلى "أوامر تنفيذية متوقعة تستهدف المنظمات غير الحكومية وغير الربحية في مجالات مختلفة، من بينها حقوق الإنسان، والحماية الدستورية، ومكافحة التغيّر المناخي، والمبادرات الخيرية وغيرها، والتي بات ينظر إليها باعتبارها معارضة. محاولات سحب الإعفاءات الضريبة من هذه المؤسسات تقلص مواردها المالية، أو تجرها إلى المحاكم حيث تنشغل بالدفاع عن نفسها، ما يسبب استنزافها وتجفيف مواردها بدلا من الدفاع عن الطبقات الفقيرة أو المضطهدة داخل المجتمع، أو معارضة سياسات أميركية تنتهك حقوق الإنسان".
ومثالاً على ذلك، فقد أدى القمع الشديد للحركات الطلابية المناهضة للحرب الإسرائيلية المدعومة أميركياً على غزة إلى انحسارها، حتى وإن لم يتم إخمادها، وجميعها أنشطة يفترض أن يحميها الدستور، وألا يؤدي الاشتراك فيها إلى قمع أو ملاحقات، أو طرد من الولايات المتحدة، وقد أصبح كثيرون يخشون من عواقب مثل الإقصاء والطرد والفصل من الجامعات التي تواطأت مع الأجندة الحكومية، بدأ ذلك خلال عهد بايدن، لكن شراسته ازدادت في عهد ترامب.
ويؤكد دكور على ضرورة الربط بين العواقب الوخيمة لقمع المجتمع المدني المحلي وبين السياسات الخارجية، خاصةً النشاط الداعم لحقوق الفلسطينيين في الولايات المتحدة، والحركات التي تدعم اتخاذ خطوات حاسمة لمكافحة تغير المناخ والعدالة البيئية.
واللافت للانتباه في هذا السياق أن تفكيك تلك الحركات، أو تفكيك الربط بينها، يؤدي إلى إضعاف قدرتها على التواصل والتنسيق حول سياسات الولايات المتحدة، ما يؤدي إلى تقلص انخراط الأميركيين بتلك الأنشطة، حتى لو كانت سلمية، وهو ما كان تاريخياً وسيلة لمقاومة القوانين والسياسات الجائرة.
ومن ذلك، أن إدارات الجامعات الأميركية لم تنتظر كثيراً لتبدأ قمع الحراك الطلابي المعارض للحرب على غزة، ومن ضمنها جامعات مرموقة، أو ما يسمى بـ"جامعات النخبة"، مثل جامعات كولومبيا ونيويورك وهارفارد، والكثير منها سمحت بدخول الشرطة إلى حرمها للقبض على أساتذة وطلاب كانوا يعتصمون داخل الحرم، وهي نفسها الجامعات التي كانت تفتخر بالحراك الطلابي ضد الحرب الأميركية على فيتنام، والذي قمعته في حينه، وبعد عقود حاولت محو تاريخها، وأخذت تتحدث عن أهمية استخلاص العبر. لكن كل ذلك تبخر عندما بدأ الحراك الطلابي المعارض للحرب على غزة في تلك الجامعات.
بعد أشهر معدودة من بدء الحرب على غزة، أجبر عدد من رؤساء الجامعات على الاستقالة، من بينهم رئيسة جامعة هارفارد كلودين جاي، وقبلها رئيسة جامعة بنسلفانيا إليزابيث ماجيل. والمفارقة أن أياً ممن أجبروا على الاستقالة لم يدعم حرية التعبير داخل الحرم الجامعي أو حق الطلاب بالمطالبة بسحب الاستثمارات من الشركات الإسرائيلية أو الشركات التي تدعم الاحتلال، بل على العكس تماماً، قامت إدارة الجامعات بوقف عمل الحركات الطلابية كمجموعة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" و"الصوت اليهودي من أجل السلام"، كما حدث في هارفارد وكولومبيا.
واستمر التصعيد ضد الحراك الطلابي مع استمرار الحرب، وصولاً إلى فصل أستاذة ووقف طلاب عن التعليم والتهديد بسحب منح وغيرها من الممارسات القمعية، إضافة إلى منع التظاهر، وإغلاق عدد من الساحات، وتغيير اللوائح الداخلية للجامعات كي تتماشى مع سياسات القمع والتضييق، بما يشمل استدعاء الشرطة لفض اعتصامات داخل الحرم.
حدث كل ذلك خلال عهد إدارة الرئيس السابق جو بايدن، لكن ما نراه في عهد ترامب ليس مجرد استمرار لتلك السياسات القمعية، بل تصعيد يشمل القبض على رموز الحراك، ومحاولة إبعادهم إلى خارج الولايات المتحدة، مثل الناشط محمود خليل، والذي يحمل إقامة دائمة في الولايات المتحدة (بطاقة خضراء)، ومتزوج من امرأة أميركية أنجبت طفله الأول، وهو لا يزال معتقلاً من دون مخالفته أي قانون، وإنما لدوره في حراك جامعة كولومبيا، والذي تمثل بالتفاوض بين الجامعة والطلاب لحماية حقوقهم.
ومن الضروري ربط القمع ضد المناهضين للحرب بالمناخ السياسي الأميركي العام والصراعات الداخلية التي لا تتعلق دائما بالقضية الفلسطينية بشكل مباشر، وإنما لها علاقة بتصاعد نفوذ اليمين، ومحاولات اختراق الحقل الأكاديمي. وهنا يمكن وضع سياسات ترامب في سياقها الأوسع باعتبارها جزءاً من سياسات قمعية مستمرة خلال فترات حكم رؤساء سابقين، بمن فيهم ديمقراطيون. فما تغير هو أن اليمين الأميركي يشعر بأن لديه فرصة ذهبية للوصول إلى تغيير جذري يتخلص مما يراه "أفكاراً راديكالية" تتعلق بحقوق الإنسان والحريات والمواطنة والعدالة الاقتصادية والمناخية والصحية، وغيرها.
وينظر كثيرون في اليمين إلى الجامعات باعتبارها معقلاً لتلك الأفكار كونها تسمح بإنتاج معرفي نقدي، ولعل فترة حكم ترامب الأولى، والتي برزت فيها الاحتجاجات الجامعية والجدل حول العنصرية المتجذرة في النظام الأميركي، وحقوق السود وغيرهم من الأقليات، زادت من شراسة اليمين الأميركي بالتعاون مع أصحاب رؤوس الأموال في محاربة تلك الأفكار، إذ لم يعد الجدل يتعلق بالمساواة والحقوق، بل توسع ليشمل تدريس التاريخ في المدارس، وأساطير تأسيس الدولة، والعبودية، وحروب أميركا المختلفة.
ولعل واحدة من الأمور المهمة التي لا يتم تسليط الضوء عليها هي تدخلات المانحين، وضغطهم في كثير من الأحيان على الجامعات، بحيث لا يصبح ولاؤها للطلاب وحرية البحث والتعبير، بل لمن يعطيها المال. وبهذا يخلق النظام "النيوليبرالي" نمطاً يتعامل فيه مع الجامعات باعتبارها شركات خدمات، فتصبح رهينة لنفوذ المتبرعين وتدخلاتهم، وتدعم ذلك سياسات حكومية قمعية، ما يزيد التهديد الجدي لحرية التعبير الأكاديمية، وعلى وجه التحديد ما يتعلق بالقضايا السياسية.
