ARTICLE AD BOX
إذا استثنينا قانون البيت لساكنه، الذي أطلقه الرئيس الليبي معمّر القذّافي، فلعلّ قانون الإيجار القديم في مصر هو أغرب قانون في العالم، منذ اختراع نظام الإيجار ونظريات التبادل، سواء من حيث ثبات القيمة الإيجارية أو تحرّكها بنِسب لا تذكر، وغير منطقية بالمرّة، أو لضمانه الامتداد إلى أكثر من جيل، وتعارضه مع مبدأ الملكية نفسه، ناهيك عن الملكية الخاصّة شبه المقدّسة في الاقتصادات النيوليبرالية. تبدّلت أجيال في مصر والقانون كما هو، لم يُصبه تعديلٌ يذكر، وتُعتبر مساحة الاقتراب منه، أو الحديث عنه، من المساحات الشائكة جدّاً، سواء للحكومة أو للبرلمان أو للرئاسة أو للقضاء، أو حتى لمن يكتبون عنه.
أثير موضوع تعديله في أكثر من فترة، وفي مناسبات عدة، منذ اتّباع سياسات الانفتاح الاقتصادي في السبعينيّات، بل فُكّ قانون مشابهٌ له، يدعى قانون الإيجار بالضريبة، في أواخر التسعينيّات، يتعلّق بالأراضي الزراعية، يعدّه بعضهم ميراثاً ناصرياً اشتراكياً لا يجوز الاقتراب منه، على الرغم من مسح كلّ الإرث الناصري والبصمة الاشتراكية من الاقتصاد المصري تقريباً، على مدار العقود الخمسة الماضية منذ وفاة جمال عبد الناصر.
بالرغم من تنفيذ مبارك الكثير من تعليمات المؤسّسات المالية الدولية، فإنه تجنّب الإسراع في إصلاحات تضرّ بالفقراء
يرى بعضهم في تعديل القانون، بمنطق تحرير العلاقة بين المالك والمستأجر، مجرّد استجابة لضغوط المؤسّسات المالية الدولية ومشروطيّاتها، لكنّ نظام الرئيس أنور السادات، الذي قاد ما سمّاها "ثورة التصحيح"، عبر "انفتاح السداح مداح"، كما يسمّيه مفكّرو عصره، مسح كلّ ما يستطيع مسحه من إرث عبد الناصر، ولم يقترب من هذه المساحة، كما حسني مبارك، رغم أنه عمّق الاستدانة، وتعامل مع هذه المؤسّسات في أكثر من برنامج إصلاح هيكلي، تجنّب الخوض في أي تعديلات تخصّ هذا القانون، رغم أنّه نفّذ تعليماتٍ كثيرة من صندوق النقد الدولي والمؤسّسات المالية الدولية الأخرى. والحقّ، كان يتجنّب الإسراع في إصلاحات كثيرة تضرّ بالفقراء بشدّة. فيما يروّج آخرون أن هذا القانون، وتلك التعديلات عليه المطروحة، مجرّد مؤامرة لإخلاء منطقة وسط البلد (القاهرة) والمناطق القديمة في عواصم المدن والمحافظات، ليس من السكّان المستأجرين فقط، وإنّما من الملّاك أيضاً، لصالح الشركاء الخليجيين والمستثمرين، الذين تطلق عليهم الحكومة شركاء أو مستثمرين استراتيجيين، لا بدّ أن تذلّل لهم العقبات، ويحصلون على كلّ ما يريدون بجلسة واحدة مع أحد الوزراء أو رئيس الوزراء، وذلك كلّه في سبيل إزالة معوقات الاستثمار الذي لم يتحسّن كثيراً.
ويرى بعضهم أن هذه التعديلات ضدّ العدالة الاجتماعية، ولا تخدم الفقراء، وكأنّ كلّ مستأجري العقارات فقراء، بينما مَن يقودون الجدل العام في هذا الأمر، من كبار الكتّاب والنواب والمثقّفين، يدافعون عن مصالح شخصية لمستأجري مناطق يعرفون جيّداً أن تحريرها سوف يفقدهم المزايا التي حصلوا عليها عقوداً، لمجرّد ولادتهم لآباء لديهم هذه العقود الممتدّة، بينما في الناحية الأخرى، لا يفكّر أحد في فقراء الملّاك والمستأجرين القدامى، ولا بمصالحهم، وربّما المهلة التي تتحدّث عنها التعديلات، خمس سنوات أو أقلّ أو أكثر، ربّما تُطرح من الحكومة لتوفير حلّ لهؤلاء، سواء من طريق طرح وحدات تأجير في المدن الجديدة أو أي حلول أخرى.
بين هذا وذاك يتبادل المواطنون، مستأجرين كانوا أو ملّاكاً، السباب أحياناً، والفتاوى والنقاش والأمثلة الجيّدة للتعامل بالعقل والمنطق، سواء في مواقع التواصل الاجتماعي أو في تعقيباتهم على تقارير الصحف، أحياناً أخرى، وصولاً إلى حوادث الاعتداءات البشعة من كلا الطرفَين بعضهم على بعض، أو التهديد بانتفاضة، وربّما بحرب أهلية، من الملّاك المتضرّرين على مدار عقود، أو من المستأجرين الذين يخافون وقوع أضرار محتملة جسيمة عليهم بمنطق تكلفة الفرصة البديلة.
ولا تخلو هذه الآراء، على منطقيتها في جزء كبير منها، من مشكلة غياب العدالة في هذه العلاقة بين المالك والمستأجر، كما في المنطق الحكومي في التعامل معها، لأنها تحوي مغالطاتٍ كبيرة، فلا المستأجرون (الذين وقّعوا تلك العقود وكان لا بدّ من التصدّي لها بطريقة أو بأخرى)، فقراء، ولا الملّاك أيضاً، بل خلال العشرية الماضية كانت هناك مضاربات على هذه العقارات بين السماسرة والمقاولين.
عودة إلى الجدل حول صندوق النقد ودوره، وهو بالتأكيد يوصي بتحرير العلاقة بين المالك والمستأجر، كما توصي بها نُخب المال والأعمال، التي تعمل في القطاع العقاري الراكد. وهذا يأخذنا إلى نقطة أخرى تتعلّق بقدرة الحكومة على تنفيذ هذه التعديلات، التي تريد تمريرها برلمانياً على وجه السرعة، تنفيذاً لحكم المحكمة الدستورية العليا منذ أعوام، بضرورة تعديل هذا القانون في أجل غايته نهاية الدورة التشريعية الحالية، الذي هو حكم محلّ جدل أيضاً، لكن هذا لا ينفي حاجة موضوعية لتعديله. وهنا يثور هذا الجدل على مستويات عدة، فمع سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد التي يقيم ثلثا مواطنيها، إمّا تحت خطّ الفقر أو على حافّته، وتعاني واحداً من أعلى معدّلات التضخمّ في العالم، بالإضافة إلى الاستياء المحلّي الواسع من الموقف من غزّة، وتراجع الدور الإقليمي للبلاد، والعجز حتى عن إدخال كيس طحين من دون إذن الاحتلال، بينما يكاد يضيع، حتى دور الوسيط الوظيفي... تدعو هذه الأمور كلّها إلى التساؤل عن قدرة الحكومة على التنفيذ في الوقت الراهن.
وفي التعديلات المطروحة إشكالات عدّة، إذ يتضمّن بعضها تحويل القيمة الإيجارية إلى عشرين ضعف القيمة الحالية، وبحدّ أدنى ألف جنيه للوحدات في المدن، ونصف هذا المبلغ للوحدات في القرى، والمشكلة هنا أنك تنتج مظالم أخرى عندما تسوّي بين عقار في منطقة ذات قيمة عالية (مثل وسط البلد والزمالك والمهندسين والمنيل وغيرها من المناطق الحيوية في عواصم المدن) وعقار آخر في منطقة شعبية أو عشوائية أو غير مخطّطة (كما تُحبّ أن تسمّيها الحكومة) إلى حين الاستيلاء عليها، وإعادة "تطويرها" عبر هدمها وإعادة بنائها، وهي العمليات التي قطعت فيها الحكومة شوطاً، واستطاعت تهجير الملايين من مناطقهم، ومرّت هذه العملية بسلام، ولم يكن لحكومة مدنية أن تقدر على تمرير هذه العمليات.
لم يكن لحكومة مصرية مدنية القدرة على تمرير عمليات الهدم وإعادة البناء، ولا تهجير الملايين من مناطقهم بسلام
وكما لا ينكر أحدٌ أن بعض الملّاك فقراء، فإن بعض المستأجرين فقراء كذلك، ما يُطرح بجدّية أن مسئولية مكافحة هذا الفقر ليست على عاتق وحساب طرف غير الحكومة نفسها التي أوجدت المشكلة بهذا القانون وغيره. والحقّ أن هذه مشكلة متوارثة من حكومات سابقة، وبالتالي، تسعى الحكومة الحالية إلى إنجازها لأسباب عدة، ربّما أقلّها مصلحة الملّاك والمستأجرين، فتهدف بالأساس إلى ضبط متحصّلات الضرائب العقارية بأنواعها المختلفة، وضريبة الدخل، باعتبار الإيجار دخلاً، وكذلك مراقبة التصرّفات العقارية، وأيضاً تصريف الفائض العقاري، الذي أنتجته عملية التوسّع في الإنتاج الحكومي للوحدات العقارية في المدن والمشروعات القومية الجديدة، التي تحوّلت فيها الحكومة، مع الوقت، من مُنتِج للسكّن الاجتماعي الرخيص نسبياً، إلى واحد من أكبر منتجي السكن المتوسّط وفوق المتوسّط والفاره أحياناً، بل ومضارب في الأرض، وفي قطاع العقار بشكل عام، وتصرفت الدولة وكأنّها شركة.
ولكن الحكومة نفسها التي عجزت عن تنفيذ قانون مخالفات البناء، إلى حدّ تهديد الرئيس للمحافظين ورؤساء الأحياء، الذين يمثّل العسكريون والأمنيون أكثر من ثلثيهم (ربّما)، بإنزال الجيش للتعامل مع تلك المخالفات، وأخيراً هناك قرارات وتوجّه لإحالة تلك المخالفات إلى القضاء العسكري بالفعل، وذلك لأنّ الدولة برمّتها تبدو في أزمة عدم قدرة على إنفاذ قراراتها، وتحصيل كلّ ما تريد من مواطنين، تؤمن دائماً بأن لديهم تحت البلاطة أموالاً طائلة يخفونها من أعين الدولة. وهي التي عجزت أيضاً عن تطبيق تعديلات قانون الشهر العقاري والتوثيق، ولا تزال أكثر من 95% من العقارات في مصر غير مسجلّة، بحسب تصريحات رئيس الوزراء. ولا يختلف الأمر كثيراً فيما يتعلّق بالإيجارات، لكنّها تسعى، هذه المرّة، إلى تصدير المشكلة إلى الشارع، والخروج منها بأكبر مكاسبَ ممكنة، فالأطراف المتضرّرة والمنتفعة من تعديلات القانون تكاد تكون متكافئة، لكنّ المزاج العام يدعم فكرة التعديلات، وإن اختلف في التفاصيل المرتبطة بالقيمة الإيجارية، وبمدّة انتهاء العقد.
والحق أن البلاد بحاجة إلى قانون موحّد للإيجار، يحقّق العدالة، ويضمن القدرة على التنفيذ بأقلّ الخسائر. في الجدل الحالي، البيانات متضاربة بشدّة، ما يوحي بأنه لا طرف لديه إحصاءات دقيقة عن أعداد الوحدات المؤجّرة بالقانون القديم، ولا بالجديد، ولا علم للحكومة (وأغلب أعضاء البرلمان) أن عقارات كثيرة مخالفة، بُنيت منذ مطلع الألفية، كثير منها مؤجّر بعقود تعود إلى 59 عاماً، ولا يوضّح أحدٌ ما إذا كانت التعديلات تشملها أم لا، كما لا تتضمّن التعديلات المقترحة أي آلية للتنفيذ بالحفاظ على حقوق الملّاك والدولة والمستأجرين، وبالتالي فهي قد تثير ضجيجاً بلا طحين، سوى تعديل القانون، وتعزيز الاحتقان المجتمعي، الذي يظهر كثيراً في تراكم هائل للمظالم، يُحدث جرائمَ شديدة البشاعة في الشوارع المصرية.
