ARTICLE AD BOX
في المؤتمر الأول للاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين في بيروت (6/9/1972)، صاغ أحد الحاضرين شعاراً للاتحاد: "بالدم نكتب لفلسطين"، فعلّق الشاعر معين بسيسو قائلاً: "لا يستطيعون الكتابة بالحبر فيريدون الكتابة بالدم". ومهما يكن الأمر، فقد مرّ أكثر من نصف قرن على ذلك المؤتمر وعلى شعاره الذي عاش طويلاً، وها نحن نعود، في هذه الحقبة الهادرة، إلى التفكّر والتنهّد، لأن ما أنزلته السياسات الدولية والإقليمية بنا أفقدنا القدرة على النظر العقلي والواقعية واستخلاص النتائج من الوقائع الصحيحة. أَليس ما حدث في غزّة، وما زال يحدث، وما يجري في سورية، مدعاة إلى الانغمار بالحرقة الكاوية كشعور أنطولوجي يصدر عن كينونتنا المفكرة والمتألمة، ومن عقولنا التي لن تحيد عن الكفاح في سبيل الحرية والعدالة والحق، ولن تنصرف قط إلى تمجيد الاستبداد والعنصرية والفاشية الدينية؟
لا شيء عديم الجدوى كالواقع المنتصب أمامنا اليوم في بلاد الشام. ولا شيء يثير الهم والغم كالذي يتداعى في المنطقة العربية الممتدة بين بيروت وغزّة ودمشق. ولا شيء يجرّنا من أنوفنا إلى التيه غير الاحترابات الأهلية المندلعة بهيئاتٍ شتّى في أنحاء الشام، ففي فلسطين، يبدو أن الإعتام الشعوري بدأ يغمر كثيراً جدّاً من الناس الساكنين خارج قطاع غزّة، ويجعلهم ساكتين، بلا حول، عن الأهوال النازلة بالفلسطينيين هناك. وصرنا لا نسمع غير عبارات باردة كأدعية الدهماء بعد نشرات الأخبار المريعة مثل "يا حرام" و"يا لطيف" و"ارفع البلاء عن أهل غزة" و"الإسرائيليون مجرمون" (يا سلام! الآن عرفتم؟)، ثم ينصرف كل واحد إلى رياضته المفضّلة، وإلى المقهى المفضّل، وإلى نارجيلته المحبّبة، وإلى محطة التلفزة الأثيرة لديه، وإلى المسلسل الدرامي الذي يتابعه بشغف.
هكذا بات قطاع غزّة مستفرَداً كغزال وحيد يطارده قطيع من الذئاب الجائعة. وهكذا استفردت الضباع الإسرائيلية الهائجة والمقروحة بأهل غزّة بعدما صمتت المدافع في لبنان، وأُزيحت إيران عن بلاد الشام، وسكتت القبائل العربية ودولها عن نهر الدماء الجاري بين بيت لاهيا ورفح. أَما كان من المجدي والحال هذه، منذ سنة على الأقل، إحالة أمور التفاوض إلى منظمّة التحرير الفلسطينية؟ ألم يكن من الأفضل قبول ورقة ستيف ويتكوف في 4/3/2025 طوعاً بدلاً من قبولها إرغاماً؟ سؤالان محيّران وواقعيان جدّاً في الوقت نفسه.
إنشاء علاقات متينة، استخبارية وسياسية، مع الدولة الإسرائيلية المحاربة للفلسطينيين، أكثر سلاسة لدى الجماعات الإسلامية المتطرّفة من المنظمات القومية العتيقة
فلسطين هي درّة بلاد الشام، بل هي قرّة عين الشام. هكذا كانت دائماً. ولا أعلم، علم اليقين، هل ستبقى على هذا النحو بعدما اكتشفنا، مبكّراً أن "محور المقاومة" لم يؤسَّس لتحرير فلسطين أو إنجادها، بل لحماية إيران ودولتها القومية أولاً وأخيراً. وأن إنشاء علاقات متينة، استخبارية وسياسية، مع الدولة الإسرائيلية المحاربة للفلسطينيين، أكثر سلاسة لدى الجماعات الإسلامية المتطرّفة من المنظمات القومية العتيقة. وهذا درس بليغ لمن تأخر وعيه في اكتشاف أن ما كان غير قابل للتصديق قبل سنوات قليلة صار مسألة بدهية.
حسناً، ماذا تريد إسرائيل من الفلسطينيين في نهاية حربها الهمجية الجارية؟ وما الغايات التي تطمح إلى الوصول إليها في آخر المطاف؟ سنكرّر الكلام في هذا المقام مئة مرّة: إنها تريد استعادة أسراها، وإن كانت هذه القضية ليست جوهرية بالمعنى الأمني، وإن تكن ذات أهمية بالمعنى الشعبي لأنها قضية رأي عام. وهي تريد القضاء على حركة حماس وقتل من تبقّوا من قادتها ونزع سلاح أنصارها، وإبعاد القادة وعائلاتهم إلى خارج فلسطين، ووضع القطاع تحت السيطرة العسكرية المباشرة لها، وتهجير ما أمكن من سكان قطاع غزّة في مرحلة لاحقة، وتحويله إلى مقبرة. وسيتبع ذلك القضاء على مجموعات المقاومة في الضفة الغربية، الضعيفة أصلاً والمطاردة فصلاً، والتسبّب في انهيار مؤسّسات السلطة الفلسطينية وإعاقة أي دور لمنظمة التحرير، وإنهاء الالتزام الأممي بقضية اللاجئين (اعتبار "أونروا" منظمة إرهابية). وفي هذا الميدان، ليُرِح الداعون إلى حل السلطة الفلسطينية ركائبهم من وعثاء كلامهم المهتلك؛ فإسرائيل هي التي تريد حل السلطة الفلسطينية وفكّ مؤسّساتها وأربطتها الدستورية.
الشرعية الموقتة للحكم السوري الجديد من الحكام العرب والأوروبيين، ومن الحاكم الأميركي أخيراً، لن تدوم طويلاً إن لم ينلها من شعبه
لقد فضحت المتخثرات الإعلامية والسياسية والعسكرية التي هيمنت على حواسنا طوال عشرين شهراً نفسها، وبرهنت أنها لا تفقه شيئاً عن العدو الإسرائيلي، وجاءت تحليلاتها التلفزية الساذجة معاكسة تماماً للواقع الحارق. وتبيّن لنا، نحن السذّج بدورنا، أن المقولة الشائعة عن عدم قدرة إسرائيل على خوض حرب شاملة، وعلى أكثر من جبهة، أو استنكافها الدائم عن خوض حرب طويلة الأجل، قد أُلقيت في حاوية النفايات. تلك المقولة كانت صالحة لفهم حدود القدرة العسكرية الإسرائيلية قبل 30 سنة على الأقل. ومنذ أكثر من 30 سنة، أي بعد توقيع اتفاقي أوسلو ووادي عربة، جرى التوصل إلى خطة جديدة وضعها رئيس الأركان إيهود باراك. لتحويل الجيش الإسرائيلي من جيش كبير العدد (400 ألف عسكري) إلى "جيش صغير وذكي". وتستند الخطّة على تطوير سلاح الجو تطويراً انقلابياً، وتزويده بأحدث الطائرات الهجومية والاستطلاعية، وتفعيل الاستخبارات العسكرية (أمان) والأجهزة الأمنية الأخرى كالموساد والشاباك، والاعتماد بشكل باهر على منظومات السايبر والذكاء الصناعي. وأدى ذلك إلى تقليص عديد الاحتياط في الجيش، وزيادة الاعتماد على الجيش النظامي قليل العدد. وهذا التحديث مكّن إسرائيل من خوض حرب طويلة الأمد من غير استدعاء إلا اثنين في المئة من عدد السكان، فيما كان الجيش الإسرائيلي في الماضي يعتمد على جنود الاحتياط في حروبه. وكانت تلك الحروب قصيرة الأجل لأن الاقتصاد الإسرائيلي ما كان يحتمل الاستغناء عن جنود الاحتياط فترة طويلة. والآن انقلبت الصورة أيما انقلاب (راجع تقرير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات المنشور في "العربي الجديد"، 9/4/2025، بعنوان "أهداف إسرائيل من استئناف حرب الإبادة). ومع ذلك، وطوال هذه الحرب التي ستُنهي السنتين من عمرها قريباً، لم يتفق الفلسطينيون، ومعهم اللبنانيون، على أي شيء تقريباً، وهذه معضلة تاريخية لا تحتاج أي برهان جديد، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة حادثة أقرب إلى النكتة، وهي أن إيطاليا الكاثوليكية عندما احتلت إثيوبيا الأرثوذكسية "دبكت" بين الكاثوليك والأرثوذكس في قرية البصّة الفلسطينية التي يكاد المرء لا يجدها على خريطة فلسطين.
....
سورية هي قلب بلاد الشام، ودمشق شريانها ورئتها ودماغها وجهازها العصبي. وما نخشاه في هذه الأيام السود تفاقم ديناميات التفكك والفوضى التي تتصاعد في سورية اليوم على أسس طائفية، الأمر الذي يُنذر بشرذمة الجماعة الوطنية وفرط الدولة التي نشأت عقب الاستقلال في سنة 1943، ثم بعد الجلاء الفرنسي في 1946. لقد غمرتنا بواعث السرور وامتلأت أنفسنا بالحبور غداة سقوط النظام السوري القديم، لكن صوابنا سرعان ما طاش حين منح المتغلب ذو الشوكة لنفسه تقرير ما الصواب وما الغلط، وتفريق الحق عن الباطل، ورحنا نتساءل: كيف سيؤسس المتغلب دولته الجديدة إذا كان معظم الناس يترددون في مناصرة السلطة الجديدة، فالعلويون والدروز والأكراد مكلومون وخائفون، والمسيحيون والإسماعيليون واجفون ينتظرون، والدماشقة والحلبيون صابرون صامتون ولا سيما أن التيار الغالب في المدينتين هو تيار التصوّف والإيمان المعتدل، وهو على نقيض كامل مع السلفية، خصوصاً السلفية الجهادية. وثمة ريبة وشكوك في تصريحات الرئيس ووزير خارجيته عن أن سورية لن تكون دولة مقلقة لجيرانها، بما في ذلك إسرائيل، علاوة على الأخبار المتواترة عن الاجتماعات العسكرية والاستخبارية في إسرائيل وباكو عاصمة أذربيجان تحت الرعاية التركية والمباركة الأميركية. وكذلك التركيز المتمادي على اتفاق فك الاشتباك بين الجيشين السوري والإسرائيلي في سنة 1974، مع تناسي قراري مجلس الأمن 242 و338 واتفاق الهدنة في 1949؛ ففك الاشتباك مسألة تقنية عسكرية خالصة، فيما القراران المذكوران أعلاه مسألة سياسية. وبهذا المعنى، لا ذكر أو إشارة إلى مصير الجولان. فهل تخلت الدولة السورية الجديدة عنه لإسرائيل؟
إذا كان المأخذ على النظام السوري القديم عدم قتاله إسرائيل لتحرير أرضه أو للدفاع عن بلاده، فالموقف الصحيح، اليوم وفي كل يوم، الإصرار على العداء لإسرائيل وقتالها عند التمكّن
إذا كان المأخذ على النظام السوري القديم عدم قتاله إسرائيل لتحرير أرضه أو للدفاع عن بلاده، فإن الموقف الصحيح، اليوم وفي كل يوم، الإصرار على العداء لإسرائيل وقتالها عند التمكّن، لا التعاون معها. لقد انحطّت بعض الجماعات السورية إلى درك ما عادت تخجل فيه من تهنئة نتنياهو على اغتياله أمين عام حزب الله حسن نصر الله. ومَن وقف ضد الاستبداد العربي لا يجوز له أن يُغرم بإسرائيل الفاشية، ومَن يختزن الكره لإيران ليس عليه أن يحبّ إسرائيل. إنه العار، فالأوساخ الجديدة خمّت حتى طمّت، وبات كثيرون يسوّغون ويستسيغون ويتفاخرون بالعمل مخبرين عند الإسرائيليين والروس للحصول على معلومات عن الجنود الإسرائيليين المفقودين في سورية منذ معركة السلطان يعقوب أو بيادر العدس في 11/6/1982، وعن جثة الجاسوس التافه إيلي كوهين، ويجمعون أشياءه لتقديمها إلى الاستخبارات الإسرائيلية.
الشرعية الموقتة للحكم السوري الجديد، من الحكّام العرب والأوروبيين، ومن الحاكم الأميركي أخيراً، لن تدوم طويلاً إن لم ينلها من شعبه، وإن لم يتجه إلى بناء دولة جديدة على أسس المواطَنَة المتساوية والحرية والديمقراطية، والتمسك بالهوية العربية التاريخية لسورية، والاستمساك بقضية استعادة الجولان وتحرير ما أمكن من فلسطين كقضية مركزية لسورية ولأمنها القومي. أما رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن سورية، على أهميتها القصوى والحيوية، فلن تنفع إن لم ينتفع الحكام الجدد من التجربة التاريخية لبناء الدولة العصرية ذات الهوية العربية التي هي هوية الأغلبية الكاسحة من السكان.
