ARTICLE AD BOX
ما أن أُعلن عن تصفية قائد ميليشيات "جهاز دعم الاستقرار" عبد الغني الككلي، المعروف بـ"غنيوة"، حتى كُشف النقاب عن تفاصيل جرائم قواته وانتهاكاتها بحق المدنيين، وهي الانتهاكات التي لطالما تحدث عنها الليبيون في الغرف المغلقة، وتضمّنتها تقارير منظمات حقوقية دولية من دون أن تحرك السلطات الليبية ساكناً.
وخلال الأسبوع الماضي، عثرت السلطات الليبية على مقابر جماعية تضمّ عشرات الجثث المشوّهة داخل مقارّ كان يسيطر عليها "جهاز دعم الاستقرار" قبل تفكيكه؛ وكانت أكبر هذه المقابر أسفل حديقة الحيوان في العاصمة طرابلس. وتُرجّح تقديرات أن باطن أرض ليبيا، التي تعيش معاناة دخلت عقدها الثاني من الصراع المسلح وفوضى السلاح، يُخفي الكثير من الأسرار عن مصير مئات المفقودين والمخفيين قسراً، بالإضافة إلى مآسي المهاجرين.
وبينما بدا واضحاً حرص الحكومة المركزية برئاسة عبد الحميد الدبيبة على تسليط الضوء على المقابر الجماعية المكتشفة مؤخراً، في محاولة على ما يبدو لتخفيف حدة الضغط الداخلي وحشد الدعم الدولي حول خطتها لمواجهة خصومها من الميليشيات، أثيرت تساؤلات واسعة عن إمكانية فتح تحقيقات شفّافة لكشف حقائق الجرائم وملاحقة مرتكبيها، أو الاكتفاء بإلقاء كلّ الاتهامات على "غنيوة" بعد مقتله.
ويؤكد الناشط الحقوقي، طارق لملوم، لـ"النهار" أنه "لا يوجد إحصاء رسميّ لعدد المقابر الجماعية التي عُثر عليها في ليبيا خلال عقد من الزمان، بسبب انقسام الأجهزة الرسمية"، مضيفاً أن "أشهر هذه المقابر تلك التي كُشف عنها في مدينة ترهونة، والتي كانت تضم أكثر من 200 جثة". ويوضح أنّ "الملف شائك، ويطال ليبيين ومهاجرين؛ فبعض الجثامين تعود إلى حروب قديمة، وبعضها الآخر لأشخاص تمّت تصفيتهم في داخل السجون".
ويلفت لملوم إلى أنه بعد أيّام من تصفية الككلي وانهيار معاقله في العاصمة، بدأت تلوح بعض الآثار الإيجابية، مشيراً إلى "فتح السجون التي كان يقيمها وتحرير المعتقلين فيها، كما تمّ اكتشاف العديد من المقابر الجماعيّة في أماكن كانت تحت سيطرة قواته، فضلاً عن العثور على أكثر من 50 جثة مجهولة الهوية في مستشفى أبو سليم للحوادث، تعود لأشخاص كانوا مختطفين ومحتجزين".
ويضيف لملوم: "التخلّص من غنيوة كسر حاجز الخوف لدى المتضرّرين من انتهاكات قواته وحلفائه، فقد تقدّم عشرات الأهالي بشكاوى وبلاغات بشأن أفراد من عائلاتهم ممن فُقدوا أو اعتُقلوا في ظروف غامضة".
لكنه يستبعد إجراء تحقيقات شفافة وواضحة في الجرائم "في ظل التضارب بين الأجهزة الأمنية في العاصمة طرابلس"، موضحاً أن "جهاز دعم الاستقرار تمت شرعنته بقرارات رسمية، وأُوكل إليه تأمين مقارّ وزارات وسفارات، وحماية الوفود الأجنبية، وتلقي أموال طائلة من الموازنة العامة للدولة. ومبنى وزارة الداخلية يبعد أمتاراً قليلة عن منطقة أبو سليم، معقل جهاز دعم الاستقرار، ومسرح الجرائم التي تحدثت عنها السلطات الأمنية، ولا يفصله سوى شارع مزدوج عن الوزارة. وما يجري هو صراع بين أجهزة حكومية وتصفية حسابات بين الخصوم".
ويؤكد لملوم إمكانية دخول المحكمة الجنائية الدولية على خط التحقيقات في جرائم "غنيوة" وقواته، موضحاً أن "الجنائية الدولية أصدرت بالفعل مذكرات توقيف بحق قيادات ميليشياوية، من بينهم الككلي، في إطار تحقيقات تجريها منذ فترة، كما أن حكومة العاصمة سمحت للمحكمة بممارسة اختصاصاتها حتى عام 2027. والدور الآن على عائلات الضحايا لتقديم الشكاوى، وكذلك على النائب العام الليبي، وعلى الحكومة المركزية، في أن تسمح لمحققي الجنائية الدولية بدخول طرابلس ولقاء الضحايا وذويهم".
بدوره، يشدّد أستاذ القانون الدكتور راقي المسماري على أنّ "لا أحد في ليبيا يبرّئ غنيوة من الجرائم المرتكبة، سواء أكانت من قبله أم على يد عناصر جهازه، وهو جهاز رسميّ أسسه رئيس المجلس الرئاسي السابق فايز السراج"، لكنه يشير إلى أنه "طالما أن الككلي مسؤول عن جرائم تابعيه، فإن رئيس المجلس الرئاسي الحالي محمد المنفي أيضاً مسؤول عن تصرفات تابعيه في الجهاز نفسه".
ويقول المسماري لـ"النهار" إنه "بعد اغتيال الككلي، ظهرت العديد من التحقيقات التي أجرتها وزارة الداخلية في العاصمة، وفيها سرد شهود من عناصر دعم الاستقرار ما جرى من جرائم، لكننا فوجئنا بردود من أهالي الضحايا تنفي صحة تلك الروايات، معتبرين أن الغرض من نشرها هو إحراج بعض التشكيلات المسلحة المناوئة لحكومة الوحدة الوطنية"، مطالباً بتحقيقات "شفافة ونزيهة تُثبت كيفية ارتكاب الجرائم، ثم توجيه الاتهام إلى منفذ الجريمة ومساعديه، وكذلك المحرض والمتستر عليها، وهي جرائم تُصنف وفق القانون الليبي كجنايات تتراوح عقوبتها بين الإعدام والسجن لمدة 12 عاماً".
ويضيف: "هناك روايات كثيرة عن اختفاء أشخاص في العاصمة على يد التشكيلات المسلّحة، لكن الحقائق لم تُكشف بعد. هناك نتيجة جنائية بوجود ضحية، لكن كيف ومتى ولماذا ومن القاتل، فذلك لم يُعرف بعد بطريقة قانونية ومهنية".
ويختم المسماري بالقول إن طرابلس "تعيش حالة من السيولة الأمنية منذ عقد، وفوضى السلاح وارتكاب الجرائم مستمرة بسبب تكليف رؤساء لأجهزة أمنية هم في الأساس غير مهنيين ولا يمتلكون تراتبية واضحة في العمل الأمني والعسكري".