ARTICLE AD BOX
منذ رحيل عاصي الرحباني سنة 1986، تابع شقيقه منصور الرحباني (1925 - 2009) كتابة المسرحيات الغنائية وتلحينها، من دون تغييرٍ يُذكر في السمات الشكلية التي حددت للظاهرة الرحبانية بصمتها الخاصة. من شأن تلك المتابعة أن وفّرت سُبل مأسسة "الرحبانيّة" وتطوّرها من محض ومضة إبداعية خاطفة، اقتضى إشعاعها التقاء أقطابٍ ثلاثة هم عاصي ومنصور وفيروز، إلى استمرارها إرثاً ليس لآل الرحباني فحسب، ولا للبنان البلد المهد، وإنما كانت أعمالهم ولا تزال، تستلهم تارة وتستنسخ على مستوى المنطقة الناطقة بالعربية؛ فيمكن القول إن الرحابنة قد ساهموا في تشكيل الوعي الجمالي العربي، على الأخص لدى جيل الثمانينيات والتسعينيات في ما يخص مجال التعبير الفني القائم على تفاعل "الفكرة/النص" مع "الصورة/المشهد" و"المغنى/الموسيقى".
مع مسار المأسسة بالمعنى التقني الفني والإنتاجي، انتقالاً من الومضة الخاطفة إلى الإرث المديد، ترافقَ مسارٌ آخر، هو تاريخ الشرق الأوسط المعاصر بما فيه الشام ولبنان، فأخذ يؤثّر على الموضوعات التي اختارها منصور الرحباني خلال فترة ما بعد عاصي؛ فمن جهة، لم يطرأ أواخر التسعينيات تبدّل على مركزية التوق إلى استعادة المجد العربي، ولو كان مخيالاً، بل ازدادت زخماً في وجه المزيد من الخيبات والمآسي، كاحتلال الكويت من قبل العراق ثم تحريرها، وما سيتلوه من احتلال للعراق من قبل الولايات المتحدة الأميركية على أثر صدمة هجمات 11 سبتمبر 2001.
من جهة أخرى، وتزامناً مع انتشار الفضائيات والحواريات السياسية على الهواء، أخذت شعوب المنطقة تنجذب إلى خطاب جديد ذي طابعٍ نصف - ثوريّ ربط التحرر العربي والتنمية بإحلال الديمقراطية، تحدّى الحال الراهنة (Status Quo)، تأثّر بالانتفاضتين الفلسطينية الأولى، فالثانية، تصاعد في لبنان بين النخب والعامة عقب انتهاء الحرب الأهلية، تجاذبه قطبا التضامن مع المقاومة جنوب البلاد، ورفض بقاء القوات السورية واستمرار تحكّم دمشق في مصير اللبنانيين، في حين أطلقت دمشق وعوداً للسوريين بالتدرّج نحو إصلاح وانفتاح، له أن يُتيح هامشاً من الحريات.
انعكست روح العصر الجديد وأجواؤه الحبلى بالأحداث والمتغيرات من خلال مسرحيّتين غنائيتين ملحميّتين، كتبهما منصور الرحباني خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، واحدة بعنوان "آخر أيام سقراط" عُرضت لأول مرة على مسرح كازينو لبنان سنة 1998 ثم في القاهرة وأبوظبي، وأخرى هي أوبريت "أبو الطيب المتنبي" التي استضافت إمارة دبي عرضها الأول سنة 2001، لتتقاطر العروض في كلٍّ من سورية والأردن ولبنان. ولئن تمحورت كل من المسرحيّتين حول شخصية تاريخية، في الأولى الإغريقي الحكيم الثائر وفي الثانية العربي الفارس الشاعر، فإن كلّاً منهما تبدوان من منظار اليوم بمثابة استجابة موضوعاتية إلى الأمزجة التي حرّكت الشارع العربي آنذاك.
المسرحية الأولى أخرجها مروان الرحباني. مُنح فيها الفيلسوف عظيم المكانة في تاريخ الفكر الإنساني لقب "أحكم حكماء الأرض". اعتمد السرد الدرامي في مرجعيّته على آثار تلامذته أفلاطون وأكزينوفون، إضافةً إلى مسرحية "السحب" للإغريقي أرسطوفان. في ما يبدو إسقاطاً راهناً على ظاهرة تلفيق التهم القضائية لأغراضٍ سياسية تهدف إلى التخلص من المعارضين، ركّز منصور الرحباني على الفصل الأخير من حياة سقراط عندما اقتيد إلى محاكمة له دبّرها "الطغاة الثلاثون" الذين انقلبوا على الحكم الديمقراطي في أثينا، إذ صدر حكم بإعدامه تجرّعاً للسم بعد إدانته بتحقير الآلهة وتخريب عقول الشباب، بينما المأرب كان تصفيته، خوفاً من تنامي نفوذه التنويري وإصراره على الاستمرار في الدعوة إلى نصرة الحق والحقيقة وإعلاء الفضيلة والوقوف في وجه الاستبداد.
يُقدّم الفيلسوف الحكيم قائداً للجماهير الثائرة في وجه الطاغوت خلال الوصلة الغنائية المعنونة "أحمر لون الثورة". على صوت أبواق الترومبيت، تُعزف جماعةً بأسلوب عسكريّ مهيب، تُنذر بحدثٍ جلل، وفيما تُضاء الخشبة باللون الأحمر القاني، يصدح صوت سقراط، يؤدّيه الممثل اللبناني رفيق علي أحمد: "أحمر لون الثورة، ذهب لون الحصاد، فضي قصر الحاكم، هربوا القوات". تُلحّن الجمل القصيرة على مقام الحجاز ذي العقد النغمية شديدة الانقباض، كما تُمدُّ نهايتها لتُجسّد فعل الصياح والنداء.
تنضم إلى الممثل جوقة غنائية تمثّل الثوّار، يحملون سيوفاً ومعاول، يرافقهم تسجيلٌ من أداء أوركسترا كييف الأوكرانية باستطاعتها الصوتية القصوى، فتطابق بعض مجاميع الآلات اللحن المُغنّى، بينما تصعّد المجاميع الأخرى عبر وسائل التوزيع الهارموني والآلي الكلاسيكي الغربي، ليزداد الوقع الدرامي للمشهد.
أما أوبريت "أبو الطيب المتنبي" فكتبها منصور الرحباني وأخرجها نجله مروان، وشارك كل من إلياس وغدي وأسامة الرحباني في تلحين القصائد. أسوةً بـ"آخر أيام سقراط"، تميّز العمل بإمكانات إنتاجية عالية، انعكس في تصميم سينوغرافيا باذخ، على موضة دراما الفنتازيا التاريخية، التي شاعت خلال الفترة نفسها تقريباً، نتيجة توفّر مصادر تمويلٍ سخيّ، أخذت تتسرّب إلى المسرح الرحباني، الذي بدا في عهد ما بعد عاصي أقرب إلى شكل الميوزيكال الاستعراضي.
برز التوجه إلى المغالاة في التوجّه إلى الجماهيرية واحتضان الذائقة الاستهلاكية من خلال الأسلوب الذي لُحِّنت به قصائد المتنبّي، إذ اقتربت بها من الأغنية الشعبية، كما سبق للرحابنة أن وظّفوها ضمن إطار موضوعاتٍ استلهموها من الريف اللبناني.
وقد راع ذلك النهج الصحافي اللبناني الراحل سمير قصير، ما حدا به أن كتب بصحيفة السفير مقالة سنة 2002، انتقد فيها السطحية الناجمة عن اتّباع شكل الأوبريت الأكثر خفّة عوضاً عن إبداع شكل أوبرا كلاسيكي يتصف بمستوى من العمق، يلبي درامياً ما تتطلّبه شخصيّات ملحميّة تاريخية بعيار سقراط والمتنبي.
إلا أنه، ومن تحت القشرة الإنتاجية الباذخة التي عمّت المشهد الفني، ولم تقتصر على مسرح منصور الرحباني وأولاده، حُمّلت تلك الأعمال أيضاً رسائل سياسية موجّهة إلى الشعوب، ليسمعها الحكام وبالعكس، اكتنفت، في حالة أوبريت المتنبي، خطاب المركزية التاريخية في الثقافة العربية ومتلازمة المجد الغابر، مفادها؛ أن السلطان يجب أن يُبتغى لأجل الشعب، ليس لأجل السلطان.
ولعل الالتفات في فترة ما بعد عاصي إلى مخاطبة العامة لا النخب، ترافقاً مع تسيّد ذهنية الربحيّة وأسلوب العيش الاستهلاكي، صبّ في جهود التكيّف مع روح عصر جديد، في سبيل أن تستمر الظاهرة الرحبانية إرثاً وألا تبقى مجرّد بارقة.
