ARTICLE AD BOX
منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لم يعد هذا الأخير ساحة للقاءات الدبلوماسية التقليدية، بل تحوّل إلى مسرح، تختلط فيه رغبة ترامب بين تصفية الحسابات السياسية والاستعراض الإعلامي. وبدا واضحاً أن مشادة ترامب مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 28 فبراير/شباط الماضي في البيت الأبيض أيضاً، لم تكن حالة استثنائية، بل نمط دشّن فيه الرئيس الأميركي مساراً خشناً في العلاقات الدولية يشبه كل شيء سوى الدبلوماسية، كان آخرها مساء أول من أمس الأربعاء، مع الرئيس الجنوب أفريقي، سيريل رامافوزا، في مشهد اعتبره كثيرون أقرب إلى كمين سياسي منه إلى استقبال رئاسي. ولم يخل اللقاء هذه المرة من استعراض ترامب لسلسلة من الأكاذيب لم يطل الوقت قبل أن تفككها وسائل الإعلام الأميركية ووكالات الأنباء. وحضرت في اللقاء ليس قناعة ترامب فقط بأن "العالم انقلب ضد البيض" بل تضخمت، على حد توصيف صحيفة نيويورك تايمز، إلى حد "الادعاء بوجود إبادة جماعية". وهو وضع لم يمكن الوصول إليه بطبيعة الحال لولا التحريض الذي قاده على مدى أشهر إيلون ماسك، الملياردير المولود في جنوب أفريقيا، والذي كان قد وجه انتقادات حادة لحكومة جنوب أفريقيا بسبب ما سماه فشلها في حماية المزارعين البيض، واصفاً ذلك بـ"الإبادة"، فيما اكتفى أول من أمس خلال مشاركته في اللقاء بمشاهدة عرض ترامب والابتسام مراراً وتكراراً.
اللقاء المتوتر في البيت الأبيض
كما يحضر في خلفية اللقاء المتوتر في البيت الأبيض الذي حاول رامافوزا الخروج منه بأقل الأضرار وعدم وإضافة مزيد من الخسائر على العلاقات المتأزمة، موقف بريتوريا من الاحتلال الإسرائيلي، خصوصاً أنها كانت المبادرة إلى رفع قضية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، لا سيما بعد أن تم الربط بين استعراض ترامب الاتهامي لجنوب أفريقيا وتوزيعه أوراقاً تتضمن المزاعم بالإبادة الجماعية على رامافوزا والوفد المرافق له، وبين دعوى جنوب أفريقيا. وأظهر ما جرى أول من أمس استعداد ترامب الواضح لاستخدام البيت الأبيض والمكتب البيضاوي، الذي كان تاريخياً مكاناً للتعبير عن تقدير كبار الشخصيات الأجنبية، لإحراج الزوار. وقد يدفع استخدام ترامب غير المسبوق للمقر الرئاسي لمثل هذه العروض القادة الأجانب إلى التفكير مرتين قبل قبول دعواته، لما قد تحمله من احتمالات تعرضهم لإذلال علني، فضلاً عن ضخّ ترامب الأكاذيب، كما فعل بشأن أوكرانيا، حين تحدث عن أن الولايات المتحدة قدمت لها دعماً بقيمة 350 مليار دولار، لمواجهة الغزو الروسي، وهو أمر ثبت عدم صحته.
دشّن ترامب مساراً في العلاقات الدولية بعيداً عن الدبلوماسية
كما أن ترامب جادل رئيس الوزراء الكندي الجديد، مارك كارني، في البيت الأبيض في السادس من مايو/أيار الحالي، بسبب قوله إن كندا ليست للبيع أبداً في سياق رفضه دعوات ترامب لكندا إلى أن تكون الولاية الأميركية الـ51، متوجهاً إلى رئيس الوزراء الكندي ناطقاً "لا تقل أبداً". وكان من المفترض أن يكون اجتماع المكتب البيضاوي، أول من أمس، فرصة لإعادة ضبط العلاقات المتوترة بين واشنطن وبريتوريا، خصوصاً بعد فرض ترامب رسومه الجمركية في الثاني من إبريل/نيسان الماضي على كل دول العالم، بنسب متفاوتة. كما كان يهدف لتهدئة التوتر المتصاعد بشأن اتهاماته التي لا أساس لها من الصحة حول حصول "إبادة جماعية ضد البيض" وعرضه إعادة توطين الأقلية البيضاء. وبعد بداية ودية للاجتماع، قال ترامب للصحافيين: "تلقينا شكاوى كثيرة بشأن أفريقيا" وأماكن أخرى، مشيراً إلى أن المزارعين البيض "يفرّون من جنوب أفريقيا".
ومهّد ترامب عملياً لإشعال التوتر في البيت الأبيض بدءاً من توجيه الاتهامات لجنوب أفريقيا بممارسة "الإبادة الجماعية" بحق الأفريكانز (السكان البيض المتحدرون من جذور أوروبية، هولندية خصوصاً) في الأسابيع الماضية، كما أنه منح اللجوء لـ59 منهم في 12 مايو الحالي، رغم أنه باشر حملة ترحيل واسعة النطاق للمهاجرين غير النظاميين في الولايات المتحدة. بعدها أمر ترامب بتخفيف الأضواء وعرض مقطع فيديو ومقالات مطبوعة قُصد بها إظهار أن البيض في جنوب أفريقيا يتعرضون للاضطهاد. وبدا أن رامافوزا كان مستعداً للرد على اتهامات ترامب، لكن من غير المرجح أنه كان يتوقع مثل هذا المسرح السياسي. وظهر منتبهاً وهادئاً بينما كان يسعى إلى دحض ما قدمه مضيفه، لكنه لم يوجه انتقاداً مباشراً للرئيس الأميركي.
وظهر في الفيديو الذي عرضه ترامب، جوليوس ماليما، زعيم حزب "المناضلون من أجل الحرية الاقتصادية" في جنوب أفريقيا، وهو يدلي بتصريحات اعتبرها الرئيس الأميركي داعمة للاتهامات الأميركية بشأن تعرّض المزارعين البيض لأعمال إبادة. وأثناء تشغيل الفيديو، قال ترامب عن مشهد تم عرضه: "إنه مشهد مروع، لم أرَ مثله من قبل". وسأل رامافوزا ترامب: "هل أخبروك أين هذا المكان يا سيدي الرئيس؟"، مشيراً إلى أنه يود معرفة المكان، لأنه لم يره من قبل، قبل أن يجيب ترامب: "إنه في جنوب أفريقيا". بعد انتهاء الفيديو، قال رامافوزا لترامب إن ماليما، رغم كونه عضواً في برلمان بلاده، لا يمتلك أي سلطة ولا يشكل جزءاً من الحكومة. وتطرق ترامب إلى موضوع مصادرة الحكومة في جنوب أفريقيا الأراضي من المزارعين البيض "من دون تعويض" وفقاً له، من أجل توزيعها على السود.
مع العلم أن الحكومة في جنوب أفريقيا تسعى إلى معالجة ترسبات الفصل العنصري (بين عامي 1948 و1994)، عبر إنهاء عدم المساواة في ملكية الأراضي، وذلك من خلال توقيع رامافوزا على قانون نزع الملكية في يناير/كانون الثاني الماضي، بعد نقاشات برلمانية حادة، وسط معارضة من حزب التحالف الديمقراطي، أحد أعضاء الائتلاف الحاكم. ويخول القانون الحكومة مصادرة الأراضي الخاصة، بغض النظر عن عرق المالك، لأغراض عامة مثل مشاريع البنية التحتية أو إعادة توزيع الموارد بشكل عادل. وينص القانون على تعويض عادل في أغلب الحالات، لكنه يسمح بالمصادرة من دون تعويض في ظروف استثنائية.
ويأتي هذا القانون ليحل محل تشريع سابق صدر في عهد الفصل العنصري عام 1975، الذي تعرض لانتقادات بسبب غموضه وعدم وضوح آليات التعويض. لكن الحكومة لم تصادر أي أرض بعد من دون تعويض، وحاولت بدلاً من ذلك تشجيع المزارعين البيض على بيع أراضيهم عن طيب خاطر. مع ذلك، لا يزال حوالي ثلاثة أرباع الأراضي الزراعية المملوكة للقطاع الخاص بجنوب أفريقيا، في أيدي البيض، الذين يشكلون أقل من 8% من السكان، بينما 4% منها مملوكة لسود جنوب أفريقيا الذين يشكلون 80% من السكان. وكان قانون "الأرض الأصلية"، الذي سنّ في عام 1913، منح معظم الأراضي الزراعية في جنوب أفريقيا للبيض، من قبل البريطانيين، تاركاً فقط 13% من الأراضي بيد السود. ثم في عام 1950، مرّر "الحزب الوطني الأفريكاني" قانوناً لطرد 3.5 ملايين مواطن أسود من أراضيهم.
اكتفى إيلون ماسك بمشاهدة عرض ترامب والابتسام مراراً
ورأى الخبير القانوني تمبكا نغوسوكايتوبي، في حديث لوكالة رويترز، أن "الفكرة من وراء قانون رامافوزا هي أن حريتنا لم تكتمل في 1994 لأن الوعد بالتحرر الاقتصادي لم يكتمل"، لافتاً إلى أن القانون يحتاج إلى 17 خطوة حتى تتم مصادرة أي أرض. أما بالنسبة إلى كيلي كريل، وهو الرئيس التنفيذي لمجموعة الضغط الأفريكانية "أفريفوروم"، فإن القانون "يخلق مخاوف من وضع اليد على الأراضي". رغم ذلك، فإن "أفريفوروم" شدّدت على رفض عرض ترامب مساعدة الأفريكانز على اللجوء إلى الولايات المتحدة، حتى إن بعض لوبيات الضغط، وأصحاب الأراضي البيض، أكدوا في تقارير صحافية أنه لم تُصادر أراض ولم يُتعرض لأصحابها. وتعدّ ملكية الأراضي الزراعية إحدى أهم القضايا التي لا تزال عالقة في البلاد منذ زمن الاستعمار (استعمرتها هولندا وبريطانيا) ثم الفصل العنصري (دام 50 عاماً) الذي انتهى عام 1994 (مع فوز المناضل التاريخي نيلسون مانديلا بالرئاسة).
وينظر المواطنون السود إلى قضية ملكية الأرض بصفتها إحدى القضايا الشائكة التي تمسّ جوهر نضالهم التاريخي ضد نظام الفصل العنصري، إذ على الرغم من دخول البلاد مرحلة الديمقراطية، إلا أن جنوب أفريقيا، التي تضم حوالي 63 مليون نسمة، لا تزال تسجل أعلى معدلات اللامساواة في العالم المرتبطة بالفوارق العرقية. وينظر الأفارقة السود إلى ذلك، غالباً، باعتباره أحد أوجه بقاء الأراضي الزراعية، بغالبيتها، بيد الأقلية البيضاء، التي تراكم الثروات من خلالها، علماً أن الحزب الحاكم، حزب مانديلا، أي حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، خلق طوال أكثر من 30 عاماً في الحكم طائفة من الأثرياء السود والفاسدين. كذلك، نفت الحكومة في جنوب أفريقيا الادعاءات بقتل مزارعين بيض، فقط لأنهم بيض، بل أكدت مراراً أن مستويات الجريمة المرتفعة في البلاد تقتل من السود أكثر بكثير من البيض. ويوجد في جنوب أفريقيا واحد من أعلى معدلات القتل في العالم، بمتوسط 72 حالة في اليوم الواحد، في بلد يبلغ عدد سكانه 63 مليون نسمة. وفي عام 2024 سجلت شرطة جنوب أفريقيا 26232 جريمة قتل في أرجاء البلاد، 44 منها مرتبطة بالمجتمعات الزراعية. ومن بين هؤلاء، كان ثمانية من الضحايا من المزارعين البيض.
وتطرق الرئيس الأميركي إلى القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في محكمة العدل الدولية والتي تتهمها فيه بارتكاب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. وقال إنه لا يتوقع من جنوب أفريقيا أي شيء بشأن هذه القضية. وخلال اللقاء هاجم ترامب صحافياً أميركياً بقوله: "عليك أن تخرج من هنا، فأنت عار على المهنة ولا تمتلك المؤهلات لأن تكون مراسلاً". وكان ترامب قد أشعل الصدام مع جنوب أفريقيا، مع قطعه المساعدات الأميركية عنها في فبراير/شباط الماضي، متهماً حكومتها بممارسة "تمييز عنصري" في تطبيق القانون. وجاء في قرار ترامب أن القانون يسمح بمصادرة ممتلكات المزارعين الأفريكانز من دون تعويض، وهو ما اعتبره "انتهاكاً لحقوق الإنسان".
وأوضح البيت الأبيض أن الأمر يستهدف التعامل مع ما سمّاه "الأفعال الفظيعة" في جنوب أفريقيا بشأن مصادرة أراض زراعية لأقليات عرقية، في إشارة إلى المزارعين وملّاك الأراضي البيض. ومن أسباب تعليق المساعدات بحسب ترامب، التجرؤ أيضاً على رفع دعوى ضد إسرائيل، ما يضر بـ"السياسة الخارجية" للولايات المتحدة. وقال: إن "جنوب أفريقيا اتخذت مواقف عدوانية تجاه الولايات المتحدة وحلفائها، بما فيها اتهام إسرائيل، وليس حركة حماس، بارتكاب إبادة جماعية في محكمة العدل الدولية، وإعادة تنشيط علاقاتها مع إيران لتطوير اتفاقات تجارية وعسكرية ونووية. وعملت إدارة ترامب على طرد السفير الجنوب أفريقي إبراهيم رسول، في 14 مارس/آذار الماضي، لأنه "سياسي مثير للفتنة العرقية"، بحسب وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو.
أكد رامافوزا أن لا مصادرة قسرية تحصل لأراضي البيض
دور إيلون ماسك
من جانبه، وجه إيلون ماسك، الملياردير المولود في جنوب أفريقيا، انتقادات حادة لحكومة جنوب أفريقيا بسبب ما سماه فشلها في حماية المزارعين البيض، واصفاً ذلك بـ"الإبادة". كما انتقد "قوانين الملكية العنصرية" التي تعيق مشروعه للإنترنت عبر الأقمار الصناعية (ستارلينك) في البلاد، والذي يتطلب شراكات مع شركات مملوكة جزئياً لمجموعات مهمشة. وتنص هذه القوانين على التمكين الاقتصادي للسود (يجب على الشركات الأجنبية الراغبة في العمل في البلاد أن تدفع 30% من قيمة أي مشروع لصالح شركات مملوكة للسود)، لكن ماسك، الذي شارك في اجتماع البيت الأبيض الأربعاء، يرفض تماماً دفع الـ30%، وكان يعتمد على الانقسام الحاصل داخل الحكومة، بين "المؤتمر" و"التحالف الديمقراطي" الشريك في الحكم، للتملص من هذا الشرط (علماً أنه حتى داخل الحزب الحاكم، يوجد جناح يدعو للتعاون مع ماسك، وخرجت تقارير محلية أخيراً تقول إن الرئيس رامافوزا هاتف عائلة ماسك للتوسط من أجل تخفيض التوتر).
ويبدو أن مالك "إكس" و"سبايس إكس"، المقرّب جداً من ترامب، قد اختار التصعيد، إذ لم يحضر ممثلو الشركة جلسة استماع كانت مقررة مطلع فبراير الماضي لتقديم عرض وإطار عمل جديد لتطوير خدمات الستلايت في جنوب أفريقيا، من أجل الحصول على رخصة. وماسك وُلد في عام 1971 في بريتوريا عاصمة جنوب أفريقيا، ونشأ في بيئة بيضاء خلال السنوات المضطربة الأخيرة لنظام الفصل العنصري. التحق بمدرسة بريتوريا الثانوية للصبيان، وهي مؤسسة نخبوية مصممة على غرار المدارس الخاصة الإنكليزية. ووفق تقرير لصحيفة ذا غارديان البريطانية في مارس الماضي، استفادت عائلة ماسك من التسلسل الهرمي العنصري لنظام الفصل العنصري، حيث عاشت في ضواحٍ غنية ومنفصلة، بينما واجه غالبية السكان السود اضطهاداً نظامياً. أعرب والده، إيرول ماسك، عن حنينه لتلك الحقبة، مدعياً أنها كانت فترة آمنة ومنظمة، وهي وجهة نظر تتعارض مع واقع التفاوت الاجتماعي الواسع والعنف المنتشر.
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز)
