ARTICLE AD BOX
لنتخيّل مشهداً تدور أحداثه في منتصف 1996، يظهر فيه أحدهم صارخاً، في ساحة عامّة بعاصمة كبرى، بأنّ فيلم الأكشن الأخير لتوم كروز سيُطلق العنان لإحدى أنجح سلاسل الأفلام في الأعوام الـ30 المقبلة. ويُعلن أنّ كروز سيبلغ 65 عاماً، ويُلقّب بمنقذ دور السينما بعد جائحة صحية عالمية، وهذا اللقب سيُلصقه به ستيفن سبيلبرغ نفسه، وأنّه سيُعلّق من الطائرات، ويقفز بالمظلات، ويطير من المنحدرات، ويُلقى من الغوّاصات. كما أنّه سيُستَقبل كما يليق برئيسٍ في مهرجان "كانّ"، حيث سيُعرض الفيلم الذي سيُعلن عنه كآخر أفلام السلسلة. يُرجّح أنْ يُختتم المشهد برجلٍ طيب يرتدي سترةً مُقيّدةً، في جناح اضطرابات نفسية، غير مُدرك أنّ الزمن سيُثبت صحة كلّ ما قاله.
سيأتي وقت لمراجعة تاريخ ملحمةٍ بثمانية أفلام، لم تمنعها أصولها التلفزيونية من بناء عالمٍ فريد وقوي على نحو متزايد، بمشاهد حركةٍ مُذهلة، وبطلٍ أصبح أكثر إنسانية، تاركاً نفسه يُثقل كاهله شعور الذنب، كما لو أنّه، بعد أحداث "11 سبتمبر" (2001)، اتّضح له أنّ السفر حول العالم لإنقاذ البشرية ليس فعلاً مجّانياً. يعرف جيمس بوند هذا أيضاً، إذْ امتلك في سنواته الأخيرة (دانيال كريغ) التمثيلَ الأكثر دنيوية وسفالة وجسدية، والأقل أناقة في تاريخ الشخصية.
استناداً إلى المسلسل الشهير "مهمّة: مستحيلة" (1966 ـ 1973)، شيّد المخرجون براين دي بالما (الفيلم الأول) وجون وو (الثاني)، وجي. جي. أبرامز (الثالث)، وبراد بيرد (الرابع)، وكريستوفر ماكويري (الخامس ـ الثامن) قاطرةً مُصمّمة خصيصاً لتوم كروز وضمان تألقّه. يبدو أن "الفرانشايز" السينمائي، المذهل والمثير، يقترب من نهايته (مع أنّه في هوليوود لا يمكن الجزم بنهاية أي شيء)، مع ممثل يبلغ 63 عاماً (مواليد الثالث من يوليو/تموز 1962)، وبعد تكريسه نحو ثلاثة عقود لأداء دور العميل إيثان هانت (الفيلم الأول عام 1996)، المتمتّع بلياقة بدنية وبنية جسدية رائعة، لتأدية مشاهد الحركة الصعبة والمذهلة (هنا توجد مشاهد تحت الماء وأخرى جوّية).
"مهمة: مستحيلة ـ الحساب الأخير" (2025، الثامن والأخير من السلسلة) يبدأ وينتهي بإشادات ذاتية بهذه الملحمة. في مشهدٍ أشبه بتأبين يُخلّد ذكرى راحلين، كما في حفل توزيع جوائز "أوسكار"، تُعاد مشاهد من الأفلام السابقة كلّها في البداية، كنوعٍ من التكريم لمن رحلوا (خاصّةً لحبيبات هانت، اللواتي يأتين بمثابة تضحيةٍ يجب دفعها). مع تكريم وتقدير كثيرَين، يؤدّي الفيلم ما يشبه رقصة نصر عبر عواصم أوروبية كبرى، إضافة إلى القطب الشمالي، في محاولة لمنع وقوع كارثة نووية طال انتظارها على الأرض.
قبل عامين، في "الحساب الأخير - الجزء الأول"، حضر تهديد مروّع شكّله ما يُسمى "الكيان"، القوة المدمّرة التي يتحكّم بها الذكاء الاصطناعي، والتي ربما تقضي على الكوكب. لكنْ هنا، بعد التفسيرات الواضحة والتعليمية، وحتى الخرقاء، للمسألة (نصّ كريستوفر ماكويري وإريك جيندريسن ليس مبتكراً إطلاقاً)، كلّ شيء أبسط وأكثر مباشرة: يجب على هانت، بمساعدة فريقه الذي يضمّ غريس (هايلي أتويل) ولوثر (فينغ رامز) وبينجي (سيمون بيغ) وباريس (بوم كليمينتيف)، السباحة والجري والقفز والقيادة والطيران والقتال حتى اللحظة الأخيرة لإنقاذ العالم.
مُحرّك السرد سيبدو غريباً قبل خمس سنوات، لكنّه اليوم أصبح من المعقول أنّ ذكاءً اصطناعياً قوياً يلتهم كلّ شيء في طريقه (الافتراضي)، ما يولّد موجة اختراقات وسيلاً من الأخبار الكاذبة، التي تُزعزع المنطق الجيوسياسي. يزداد الأمر سوءاً بعد سيطرة الكيان على الأسلحة النووية للقوى الذرّية كلّها تقريباً. المقاومة، طبعاً، تتمثل في الولايات المتحدة الأميركية. فماذا ينبغي أنْ يفعل هانت في مواجهة كارثة وشيكة؟ أساساً، كما الحال دائماً: يُوجّه فريقه لإنقاذ آلة ما من غواصة روسية غارقة، قادرة، باستخدام أداة ما، على ترويض الكيان.
لكنّ الحبكة، كالحال دائماً في أفلام الأكشن، أقلّ أهمية، لأنّ تركيز 170 دقيقة (التي تمرّ سريعاً) ينصبّ على المشاهد الطويلة: كروز يسبح ويركض ويقفز ويقود ويغوص ويهدّد ويطير ويخترق ويسرق ويعاني ويخطئ ويقتل ويموت، ثم يعود إلى الحياة. يفعل كلّ شيء تقريباً بنفسه، في ما يكون ربما أعظم لفتة غرور وإيثار في هوليوود المعاصرة. باعتباره الشخص الذي يفسّر رغبات النجم وتطلّعاته بشكل أفضل، ابتكر ماكويري فيلماً يغيّر لونه، بينما يتغلّب هانت على عقبات من كلّ الأنواع: تتراوح مناخات الفيلم من الخانق والمقبض إلى المشهدي والطنّان بسلاسة وطبيعية شخص يعرف أنّه، كما يقول شعار شركة الملابس الرياضية الشهيرة، "لا شيء مستحيل".
لن تُكشف النهاية بالطبع، لكنها تُثير أيضاً مشاعرَ الوجدان، وتُشبه إعادة تشغيل شريط فيديو قديم للتعبير عن الامتنان لهذه العقود الثلاثة، التي نجت فيها سينما الحركة الكلاسيكية (بعيداً من استخدام التقنيات الحديثة في تكوين المشاهد الكبيرة) بفضل تحالف كروز، من موقعه منتجاً وبطلاً في الملحمة، مع صانعي أفلامٍ موهوبين، للحفاظ على عراقة هوليوود، مصنع الأفلام الشعبية. هذا الجوهر، تحديداً، احتفى به مُحبّون عديدون للسينما في العرض الرائع في قاعة لوميير الشاسعة، بفضل شاشتها العملاقة، وتجهيزاتها الصوتية القوية التي تهزّ المقاعد.
هوليوود بكلّ روعتها، لكنْ على أرضٍ فرنسية.
