"موجة جديدة" يثير حنين عشاق السينما في مهرجان كان

6 hours ago 1
ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">جان سيبيرغ وبلموندو في فيلم "على آخر نفس" (ملف الفيلم)</p>

لا يمكن اعتبار الفيلم التفاتة توثيقية إلى ماضي السينما فحسب، إنما شيئاً أقرب من "الليل الأميركي" لفرنسوا تروفو أو "المقابلة" لفيلليني، بمعنى أنه يتيح لنا متابعة مخرج وهو يعمل، مواجهاً مخاض الخلق الفني بما يحمله من بهجة وعذابات. إنه، باختصار، استعادة سينمائية دقيقة ومحبة لصفحة ثورية من تاريخ الفن السابع.

يحملنا الفيلم إلى زمن "الموجة الفرنسية الجديدة" التي أرست قواعد جديدة لإنجاز أفلام تنبذ المدرسة التقليدية التي كانت قائمة قبلها. لينكلايتر، 64 سنة، صاحب ثلاثية "ما قبل"، المعروف بشغفه بذلك التيار الذي كان له تأثير عابر للقارات واستُلهمت منه حركة "هوليوود الجديدة" في أواخر الستينيات، يدخل في حوار حي مع مرحلة مفصلية من تطور اللغة السينمائية.

لكنه يفعل ذلك من موقع السينمائي العابر للحدود الثقافية، الذي يرى في السينما تجربة كونية تتيح روابط أخلاقية وعاطفية بين صناعها. فيلم ينبض بالاحترام والدهشة تجاه الجيل الذي أعاد تعريف السينما وجعل منها أداة لمساءلة العالم. هنا، لا يستعاد غودار وتروفو وشابرول وبقية أعضاء شلة "الموجة" كشخصيات تاريخية جامدة، إنما كأفراد حالمين، مشاكسين، تائهين، فوضويين، في سعيهم إلى قلب الطاولة على السينما التي كانت قبلهم.

ولأننا حيال "فيلم داخل فيلم"، ينقلنا لينكلايتر إلى تجربة تصوير "على آخر نفس" (1959)، رائعة غودار التي تعدّ أحد أبرز معالم تلك المرحلة، بعد عملية تقديم لأبرز من أصبحوا لاحقاً رموز تلك المرحلة الصاخبة. ولكن بدلاً من التوثيق الكلاسيكي، يعتمد لينكلايتر على أسلوب تفاعلي يجمع بين السخرية والحنين، في بناء درامي لا يخلو من الفكاهة والعاطفة، حين السينما تتحول في كل لحظة أرضاً للحلم والتجريب.

لحظات أسطورية

من خلال اكتشافنا ظروف تصوير "على آخر نفس" الذي جاء ثورياً في كيفية إحداثه قطيعة مع أسلوب العمل القديم، يرينا لينكلايتر اللحظات الأسطورية لولادة تيار فني، مركزاً على عملية التصوير كمختبر مفتوح، حيث تتقاطع الطموحات الفردية مع الروح الجماعية. 

غودار، كما يقدمه الفيلم الذي يلعب دوره ببراعة مدهشة (غيوم ماربك) ليس قديساً ولا بطلاً خارقاً. هو ناقد شاب طموح، مثقف وصاحب رؤية، مدفوع بالرغبة في التغيير، يتعامل مع التحديات والقيود بعناد وشغف، فنان سابق لزمانه دخل التاريخ من بوابته الواسعة. لا يلتزم السيناريو الذي، بناء عليه نال دعم المنتج جورج دو بورغار، مما زجه في سلسلة مواقف خلافية مع كل من يحيط به، وهي أجمل ما في الفيلم. نراه يعبث بالزمن، يستمد أعرافه الخاصة من رحم الفوضى والارتجال وتحسس اللحظة، إيماناً منه بأن السينما يمكن أن تكون أداة تغيير مثلما هي جسد للجمال الخالص.

"موجة جديدة" فيلم عن السينما، ما يميزه هو أن بطله الحقيقي ليس غودار ولا تروفو، بل السينما نفسها. الكاميرا تتحرك بحرية داخل المشهد، تتوقف عند التفاصيل الصغيرة. كل ذلك يسهم في إعادة بناء المزاج العام لتلك المرحلة الثورية، وكأننا نشاهد حلماً يتجسد أمامنا، لا إعادة سرد لتاريخ معروف. الإدارة الفنية عبقرية في إنتاج تلك الفترة الزمنية، كما لو أننا نشاهد فيلماً من نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات.

يمنح لينكلايتر التقنيين والمصورين والمنتجين أيام ازدهار الموجة الجديدة، دوراً محورياً في هذه الحكاية، في تذكير بأن السينما ليست عملاً فردياً، بل نتاج جماعي لصدامات ومصالح وأهواء، تقود أحياناً إلى معجزات تدخل التاريخ. وفي هذا المجال، كانت فكرة تخصيص حيز مهم للمصور راوول كوتار، الذي التقط مشاهد "على آخر نفس"، فكرة في محلها.

لحظات الشك

لا ينظر لينكلايتر إلى أبطال تلك المرحلة بقدسية، لكنه لا يسعى إلى تعريتهم أيضاً منتزعاً الهالة التي تحيط بهم. ما يفعله هو تفكيك هشاشتهم، توترهم، لحظات الشك التي عاشوها، لكنه في الوقت نفسه يبرز العمق الإنساني الذي منح تجاربهم هذه القدرة على التأثير، لكن الأسطورة ستبقى، عصية على نسفها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الضحك والطرافة وخفة الظل كلها حاضرة بقوة، ليس فقط لأننا أمام كوميديا عن الفن وتخبطاته وعنجهية أصحابه، بل لأن الشخصيات تشبه الفنانين الذين نعرفهم في هشاشاتهم ورعونتهم وصدقهم و"دجلهم" أحياناً، وفي مقدمهم غودار الذي يستعين بصحافي لبث الأكاذيب عن نفسه، أكاذيب ستتحول مع الوقت إلى أساطير.

هل كل ما نراه عن تصوير "على آخر نفس" صحيح؟ وحدهم شهود تلك المرحلة الذين أصبحوا قلة قليلة هم من يستطيعون تأكيد ذلك، لكن المعروف عن لينكلايتر إمعانه في التفاصيل التي تتشكل نتيجة بحوث طويلة. في هذا المجال، نسلم أمرنا له.

"موجة جديدة" فيلم عن لحظة حرية وتجديد وانقلاب على التقليد في تاريخ الفن. لحظة كان فيها كل شيء قابلاً للاختراع من الصفر، وكل قاعدة وضعت لتكسر. لينكلايتر، في مغامرته الجديدة التي ستعجب كل من يحب السينما، يمنح الماضي حياة ثانية على الشاشة، ولكن أين؟… في مهرجان كان الذي كان شاهداً على ولادة هذا التيار السينمائي يوم عرض فيه "سيرج الجميل" لشابرول و"الحياة الماجنة" لتروفو في نهاية الخمسينيات. يصور لينكلايتر الماضي كمصدر دائم للعدوى الإبداعية، وهذا وحده كافٍ ليجعل من فيلمه حدثاً فنياً يستحق الوقوف عنده وأحد أقوى المرشحين لـ"السعفة".

subtitle: 
استعادة بصرية دقيقة ومحبة لصفحة ثورية من تاريخ الفن السابع
publication date: 
الاثنين, مايو 19, 2025 - 15:15
Read Entire Article