ARTICLE AD BOX
رأيه مطلوب في القضايا الاقتصادية التي تهمّ المغاربة. حتى من لا يشاطرون الاقتصادي المغربي نجيب أقصبي، مواقفه وآراءه يهتمون بما يصدح به من آراء ومواقف لمعرفتهم بخبرته، وإدراكهم لنزاهته الفكرية وصراحته عندما يتناول الشأن الاقتصادي والمالي من الزراعة إلى سياسة الموازنة.
استعاد كثيرون، مساء الجمعة الماضي، مواقف ومسار نجيب أقصبي. فقد عُقد حفل تكريم لهذا الاقتصادي من مجلة العلوم السياسية والاجتماعية بشراكة مع الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية. ذلك تكريم حظي بإشادة العديد من العارفين بمساره، فهو لم يتخلف يوماً عن إبداء آرائه التي يُسبغ عليها نفحة إنسانية تستبعدها من المقاربات الفنية الباردة التي يميل إليها اقتصاديون آخرون.
نموذج للمثقف الجاد
يرى فيه كثيرون نموذجاً للمثقف العضوي. لم يكتفِ بالتدريس والتأليف، فهو حاضر بقوة في النقاش العمومي، ولا يتردد في التعبير عن مواقفه من السياسات الاقتصادية والمالية والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، عبر كتبه العديدة، ومساهماته في المجلات المتخصّصة، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي وتصريحاته المطلوبة من وسائل الإعلام.
يستند أقصبي الذي رأى النور في مدينة فاس عامَ 1952، في ما يعبر عنه من مواقف إلى تكوين متين؛ فقد حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة باريس دوفين، وتخرج من معهد الدراسات السياسية بالعاصمة الفرنسية باريس.
يتولى منذ عقود التدريس بمعهد الزراعة والبيطرة الحسن الثاني بالرباط، كما عمل منسقاً لتخصّص الاقتصاد والتدبير، وعُرف وسط المهتمين والرأي العام بتدريس السياسات الزراعية والمالية العامة والشراكة المغربية الأوروبية.
يوصف ممن لا يشاطرونه آراءه بأنه "متشائم"، غير أنه يحيل على الواقع الذي يراه باعثاً على التشاؤم، مؤكداً أن المهم هو مناقشة الأفكار والوقائع. وأوضح أقصبي مع ذلك أن الاقتصاد المغربي يتضمن نقاط ضعف، لكنه لا يعدم نقاط قوة ومؤهلات، مثل الموقع الجغرافي والقرب من السوق الأوروبية والموارد الطبيعية وتنوع الأنظمة البيئية والموارد البشرية المؤهلة في المدن والأرياف والرصيد التاريخي والثقافي.
معالجة الصعوبات المعيشية
يتصوّر أقصبي أنّ تلك المؤهلات كفيلة بالمساهمة في التطوّر الاقتصادي ومعالجة الصعوبات المعيشية التي يعاني منها المغاربة، وهو ما يُعتبر هدفاً أساسياً لكل عملية اقتصادية. هذا ما يدفعه إلى التأكيد أن التعويل على اقتصاد السوق الذي يسنده القطاع الخاص، والصادرات، والاستثمارات الخارجية المباشرة يفضي إلى اقتصاد الريع.
ينتقد مفهومَ الدولة الاجتماعية، ويراه محصوراً في خطاب للاستهلاك الإعلامي؛ فهو يتصوّر أن الدولة تقترض بهدف تمويل برامج اجتماعية لا تندرج ضمن سياسات مستدامة ترمي إلى تحسين معيشة المغاربة، مشدداً على عدم الانخراط في إصلاح جبائي حقيقي يرنو إلى الإنصاف، سيُفضي إلى عدم توفير الموارد لتمويل الخدمات الاجتماعية.
استحضار أقصبي لهدف العدالة الاجتماعية في السياسات الاقتصادية، يأتي من قناعاته الإنسانية التي سعى إلى تكريسها والدفاع عنها عبر انتمائه إلى اليسار الذي دعا دائماً إلى توحيده.
وهو من الذين انكبّوا على دراسة السياسات الزراعية للمغرب، إذ يحيل على سنوات التقويم الهيكلي تحت إشراف صندوق النقد الدولي. في تلك الفترة برز كبار المزارعين المنشغلين بالزراعات التصديرية على حساب المعيشية، ما أدى إلى الإمعان في استغلال الموارد المائية، ويشدّد على ضرورة إعادة النظر في الاختيارات الزراعية، عبر استحضار مشكلة الموارد المائية والسيادة الزراعية.
الاقتصاد تحت سقف من زجاج
في آخر كتاب له، الذي حمل عنوان "الاقتصاد المغربي تحت سقف من زجاج من البدايات إلى أزمة كوفيد - 19"، يتحدث عن العوامل التي تَحول دون انتقال الاقتصاد المغربي إلى مرحلة الصعود والانبثاق، إذ يؤكد أنّ العائق الذي يتمثل في نظام الحوكمة هو ما يُعيق هذا الإقلاع.
ويذهب إلى أن أزمة كوفيد كشفت العيوب التي تخترق الاقتصاد المغربي، خاصّة في ظل تهافت المقولات التي تتغنّى بالعولمة، فقد تجلّى خطأ تراجع الدولة في تولي أمر الخدمات العمومية مثل تلك ذات الصلة بالصحة.
وقد كان أقصبي من أبرز الاقتصاديين الذين يدعون إلى تغليب مفهوم السيادة في السياسة الاقتصادية، خاصة في ما يتصل بالزراعة، فقد تجلت في ظل كوفيد أهمية مسألة السيادة الغذائية، وهو مفهوم يرى أقصبي أن المدافعين عنه كانوا يوصفون بالمناوئين للعولمة واليساريين قبل الأزمة الصحية.
يُذكر أن الاقتصاد المغربي سجل تباطؤاً في وتيرة نموه خلال الربع الرابع من عام 2024، إذ بلغ معدل النمو 3.7% مقارنة بـ4.2% في نفس الفترة من عام 2023، وفق بيانات رسمية. وأوضحت المندوبية السامية للتخطيط المغربية الحكومية، في تقرير سابق لها، أن هذا التراجع يعكس تباطؤاً في عدد من الأنشطة الاقتصادية، رغم استمرار الطلب الداخلي محركاً رئيسياً للنمو، في ظل جهود الحكومة للتحكم في التضخم، وزيادة الحاجة إلى تمويل الاقتصاد المغربي.
أقصبي من القلة القليلة الباقية من الاقتصاديين المغاربة الذين مازالوا يفكّرون في قضايا التنمية باستحضار العوامل الاقتصادية والعوامل غير الاقتصادية.
فاقتصاد التنمية، كما أسَّس له الاقتصادي المغربي الراحل عزيز بلال، لا يقتصر على العوامل المادية فحسب، بل يمتد، كما يقول الاقتصادي المغربي نور الدين العوفي، إلى العوامل المؤسّساتية، والاجتماعية، والثقافية، والرمزية، والسلوكية.
