هل نبني سورية على إرث الدولة الاستبدادية؟

1 week ago 6
ARTICLE AD BOX

صعوبة المرحلة الانتقالية التي تعيشها سورية لا تأتي من أنها فقط بلد مدمّر من الناحية العمرانية والبنى التحتية، التي عمل النظام السابق في ديمومة خرابها انطلاقاً من "أنا ومن بعدي الطوفان". فهذه المشكلات، وعلى الرغم من تعقيداتها في ظلّ العقوبات الأميركية الغربية خارجياً، والفساد المتفشّي داخلياً، يمكن، بكثير من العمل والانفتاح العربي والدولي، ترميمها وتعبيد الطريق إلى حلولها الممكنة، إلا أن الخراب الفعلي، والأشدّ تأثيراً في المدى البعيد، يكمن في تلك الحواجز الحدّية التي صنعت التفرقة المجتمعية، سواء عبر ترويج نظرية اختلاف الطوائف وتصنيفها وفقاً للقرب من السلطة أو بعدها عنها، أو من خلال تنوّع القوميات وتمايزها بطريقة تفوّق بعضها على بعض في الحقوق، ما أدّى إلى تقوقع جميع المكوّنات داخل أطرها الضيّقة، من دون تمييز بين أكثرية أو أقلّية، بسبب حالة الخوف من الآخر، التي تؤسّس انتصار مبدأ "الانفصال هو الحلّ"، سواء كان ذلك انفصالاً حدودياً أم معنوياً، فالواقع الداخلي الذي نعيشه، وهو نتيجة طبيعية لما صنعه الماضي، يضع اليوم الحكومة والشعب أمام تحدّيات جمّة. فمن جهة، الحكومة معنية في إدارة هذا التنوع المجتمعي في إطار الدولة الوطنية، من دون أن يعني ذلك العودة إلى الهيمنة والاستبداد، أو تجاهل خصوصيات المكوّنات ومتطلّباتها، وهذا يستدعي بالضرورة مشروعاً وطنياً أساسه المواطنة المتساوية، يُقرّ عبر دستور يكفل الحرّيات الفردية والجمعية، ويضمن مشاركة جميع المكوّنات في صناعة المستقبل، أي مشروعاً لا يقوم على منطق الغلبة أو التنافس الهوياتي. ومن جهة مقابلة، لا بدّ من وجود إرادة شعبية لجسر الخلافات وبناء جسور القبول بالآخر مجتمعياً، قبل أن تتحوّل هذه المبادئ قراراتٍ حكوميةً أو قوانين تنفيذية.
سياسة تضميد الخلافات بين الدولة السورية والمجتمع الدولي ضرورة لعودة سورية دولةً طبيعيةً فاعلةً في محيطها الجغرافي، بعد أن كانت في أوقاتٍ كثيرة مصدّرة للمشكلات، ومحرّكة للانفلات الأمني في معظم الجوار العربي والإقليمي، وممارسة هذه السياسة الخارجية التصالحية اليوم بخطىً متسارعة على المستويين العربي والغربي، بعيداً من الحسابات السابقة التي قامت على قوّة تدخّل النظام السوري في ملفّات خارجية، تعدّ تحولاً في الاتجاه الصحيح، لأنها تتم وفقاً لما هي عليه سورية اليوم، داخل حدودها، من دون تدخّلاتها ومخالبها وتحالفاتها الإقليمية وتهديداتها للآخرين.

من الضروري القطع مع الماضي المشين الذي خلّفه حكم الأسد، والمضي نحو تمكين السلطة من امتلاك مفاتيح الاقتصاد الحقيقي الذي يهم السوريين، إلى جانب تحقيق المصالحة المجتمعية المسؤولة

ومع الاعتراف بواقع الخلافات الداخلية التي وُرثت بعضها من النظام السابق، ومن المؤسف القول إنها توسّعت أيضاً لتنتج اصطفافات جديدة تقوم على أكثرية مؤيّدة للسلطة الجديدة ومكوّنات مختلفة معها، ما يخدم وجود مشروع تصادمي ذي أبعاد استقطابية داخلية خارجية.
حالة الاعتراف بالواقع الحالي، التي تنتهجها السلطة في علاقاتها الدولية، تعزّز فرص قبولها الخارجي، والرغبة في مساعدتها في تخطّي أزمة العقوبات الاقتصادية لحلّ مشكلاتها الداخلية من جهة، ورسم سياسة انفتاح على العالم من جهة أخرى، أي العودة بسورية لتكون جزءاً من خريطة العالم، بعد عقود من قوقعتها داخل مزرعة الأسدَين الأب والابن، كما أن هذا القبول يمكن قراءته من التصريحات الدولية، مرهون أيضاً بواقع داخلي منفتح على مكوّناته، ينبذ الحكم بقوة السلاح، وشرعية "من يحرّر يقرّر"، لأن الشرعية الوحيدة التي تمنح فرصة الرخاء والقدرة على تجاوز الأزمات، هي شرعية الشعب، الذي رحّب به، ولا يزال يعيش فرحته بالنصر الكبير. وفي هذا السياق، أيّ نجاح تحقّقه السلطة على المستوى الخارجي يبقى مرهوناً بنجاحها في إدارة ملفّاتها الداخلية، فكما لا يمكن بناء دولة مستقرّة على أنقاض دولة الاستبداد، لا يمكن أيضاً الاستمرار بالموافقة على استمرار المفاهيم التي جعلت من التنوّع خطراً، ومن مدّ جسور الثقة والمصالحات المحلّية ضعفاً، ومن الإعلام التحريضي أداةً للدفاع عن سياسات الدولة في التعذيب والتهجير والخطف والقتل على الهُويَّة. ما يعني ضرورة القطع مع هذا الماضي المشين الذي خلّفه حكم الأسد، وأصواته المتنقّلة بين ضفاف الموالاة والمعارضة وبالعكس، والمضي نحو تمكين السلطة من امتلاك مفاتيح الاقتصاد الحقيقي الذي يهم السوريين، إلى جانب تحقيق المصالحة المجتمعية المسؤولة، والبعيدة من خطابات سطحية في السلم الأهلي، فالمساواة في الحقوق والواجبات هي جسور الثقة، والعدالة الانتقالية ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، يمثّلان الأساس في جمع السوريين في مشروع وطني موحّد، في أرضٍ لا ترتفع بين مكوّناتها حدود الفتنة الطائفية أو القومية، ولعلّ المقدّمات الصريحة هي جواز سفرنا إلى الخارج، وإلى سورية الدولة القوية بكل مواطنيها.

Read Entire Article