ARTICLE AD BOX
تداول الإعلامان الفرنسي والدولي جملة أخبارٍ تفيد بأن مجلسَي الدفاع والأمن الفرنسيَّين انعقدا، وبشكل عاجل، للاطلاع على تفاصيل مؤامرة تحيكها جماعة الإخوان المسلمين للسيطرة على فرنسا، وذلك بالتسلّل إلى المجتمع، والهيمنة الناعمة على البلد. وتفيد الأخبار التي تسرّبت بأن جهاز الاستعلامات الفرنسية حصل على معلومات "دقيقة" عن تسلّل التنظيم عبر جملة من الجمعيات والمدارس والنوادي الرياضية وغيرها، مستغّلاً مشاعر الغضب والعزلة التي تعصف بأوساط عديدة من الجاليات المسلمة المهاجرة أو الفرنسيين من أصول إسلامية. وبغض النظر عن دقّة ما أورده التقرير، خصوصاً في ظلّ التشكيك المتنامي في صحّة الرواية التي قدّمها وزير الداخلية، وهو اليميني المعروف بمناهضته المسلمين، فضلاً عن انحيازه إلى الأوساط المسيحية الصهيونية هناك خصوصاً، وقد وجّهت إليه انتقادات حادّة في إثر مقتل الشاب أبوبكر السيسي (من أصول مالية) وهو يصلّي في أحد مساجد جنوب فرنسا... بغض النظر عن ذلك كلّه، يثير هذا الخبر مسائل عميقة، تتعلّق باللائكية الفرنسية والعقيدة الجمهورانية التي صاغتها، فضلاً عن نموذج الإدماج الذي اعتمدته للتعامل مع المهاجرين.
تتنامى في فرنسا نزعة من الانزياح الحادّ للعقل السياسي إلى عقيدة استخباراتية تضاعف الخوف والرُهاب إلى حدّ الهلوسة
منذ البداية، لن نتخيّل أن ما كشفته الداخلية في فرنسا يمكن أن يحدث في بلد أوروبي آخر، على الأقلّ على النحو الذي جرت فيه مسرحته وإخراجه إعلامياً ضمن استراتيجيةٍ لا تخلو من حشد (ونشر) الفزّاعات التي عرف بها هذا البلد منذ سنوات، ولا يعتقد كاتب هذه السطور أن بلداً ديمقراطياً يسمح بالتعددية السياسة والجماعاتية" (Communautarisme) سيذهب إلى ما ذهبت إليه فرنسا، التي تشلّها لائكيّتها وعقديتها الجمهورانية تلك، وتدفعانها إلى ارتكاب مثل هده الحماقات.
يمثلّ العقل السياسي الفرنسي نموذجاً صارخاً لهيمنة المقاربة الاستخباراتية، تماما كما يحدث في دول شمولية عديدة، مع فارق بسيط، احترام المعايير الدنيا من حقوق الإنسان، كلّما تعلّق الأمر بحقوق الأفراد من قبيل الحرمة الجسدية والقضاء العادل... إلخ. تتنامى في فرنسا منذ سنوات عديدة نزعة من الانزياح الحادّ للعقل السياسي إلى عقيدة استخباراتية تضاعف الخوف والرُهاب إلى حدّ الهلوسة. يترسّخ خوف رهيب على الهُويَّة الوطنية، وفرنسا هي الدولة الوحيدة التي أسّست وزارةً سمّتها وزارة الهُويَّة الوطنية. هذا الخوف المرضي سمح لها بكلّ تلك التجاوزات الخطيرة التي لا يمكن تصوّرها في بلد، حتى إنها ذهبت إلى منع بعض أنواع اللباس والحُلي بحجّة خرق الهُويَّة الوطنية، في ما يشبه الخروج عن الملّة، كما جرى في القرون الوسطى تماماً. خوف رهيب يشلّها ويرعبها. الجدار شفّاف بين الاستعلامات وبين الذي ينهار بشكل متسارع فيها، غير أنه لا يمكن للسياسيين، خصوصاً الحاكمين منهم، إغفال ما تقدّمه أجهزة الاستعلامات من معلومات ومعطيات دقيقة حول مسائل سياسية حسّاسة، سواء داخلية أو خارجية تهمّ الأمن القومي وسلامة التراب، ولكن يبدو أيضاً أنه من السخافة اعتقاد أن العقل السياسي كلّه يمكن أن يظلّ على سياسته وقد عاد سجيناً للمعلومات التي تقدّمها تلك الأجهزة. في فرنسا نتجه إلى تنامي "أمننة" السياسة، منذ ظهور معضلة الإرهاب بشكل خاص الذي أصابها، فضلّ خيالها السياسي أيضاً. تبدو فرنسا أكثر البلدان قابليةً لهذه الانزياحات والتحوّلات في العقل السياسي الذي يستفحل ارتهانه إلى الاستعلامات، فالتجربة التاريخية للمجتمع الفرنسي في علاقته بالتعدّد والاختلاف كانت مضنيةً، فقد ظلّ كابوس النظام القديم يشلّ الخيال السياسي الفرنسي إلى حدّ الهلوسة. كانت فرنسا الرسمية في أواخر القرن التاسع عشر مرعوبة وقلقةً من الأجسام الوسيطة: جمعيات ومنظّمات ونوادٍ وهيئات مدنية، ولا ترى فيها إلا نظاماً قديماً حريصاً على العودة. لذلك، ظلّ المجتمع المدني مشلولاً، وانتظرنا سنة 1905 ليُسمح للجمعيات بالتشكّل والتأسيس.
أشار ألكسيس دي توكفل إلى هذا الرُهاب الذي شكّل العقل السياسي، وظلّت لفرنسا ديمقراطية جمهورانية، لا يهمّها بالدرجة الأولى أن يعبّر المجتمع عن تعدّده واختلافه، بل أن يعبد الجمهورية وينسجم مع مذهبها. أفلحت فرنسا خلال القرنَين ما بعد ثورتها أن تصنع قالباً كبيراً صمّمته من فولاذ، هو أقرب إلى قفص حديدي تحشر فيه مواطنيها. ذابت في فرنسا كلّ الاختلافات، وصُهرتْ، ولم يخل ذلك من غطرسة وعنجهية. على مرمى حجر من فرنسا، نمت تجارب أخرى أكثر احتفاء بالتعدّد والاختلاف في تقليد تاريخي طويل يمدح الجماعات الإثنية والعرقية والدينية... إلخ. حين تسافر إلى بريطانيا أو هولندا، وحتى إلى بلجيكا، سترى التعدّد واضحاً وجلياً في اللباس والمطاعم واللهجات والأسواق والموائد، في حين تختفي هذه التعبيرات التعددية كلّها في فرنسا. سنّت فرنسا في غباء "عقلاني" قوانين تمنع الحجاب ومظاهر التعدّد الثيابي كافّة، تحت مسوّغات عديدة، ولكنّها نابعة من كرههها المَرضي للتعدّد والاختلاف. ذوّبت وصهرت هذا كلّه في قالب الجمهورية إلى حدّ مرتبة العبادة. ليس من الصدفة أن تكون فرنسا الحاضنة الأكبر للإسلاموفوبيا، التي تظلّ سليلة اللائكية الفرنسية.
تجني فرنسا نتائج سالبة نتيجة سياساتها الفاشلة في إدماج المهاجرين وفي لائكيّتها المهلوسة التي أججت مشاعر الإسلاموفوبيا
قد يكون لتنظيم الإخوان المسلمين استراتيجيةً للانتشار ولاستقطاب الجاليات المسلمة، ولكن أن تُشيطَن جمعيات الجاليات ونواديها ضمن هذه الخطّة "الجهنمية"، فهذا لا يخلو من افتراء. لقد طالب العديد من نواب البرلمان، فضلاً عن شخصيات حقوقية عدّة، بكشف المزيد من التفاصيل المقنعة، لأن ما ورد، حسب اعتقادهم، يظلّ غير كافٍ ولا يخلو من غموض وتوظيف. أمّا التوصيات التي قدّمتها السلطات الفرنسية، فهي إقرار ضمني بإخفاق نموذجها في ادماج الجاليات المهاجرة، وخصوصاً المسلمة. إنه قالب جاهز خانق. إذ تثير التوصيات جملةً من المشاكل العالقة، ناجمة عن ضيق قالب الدمج: رفض المقابر الخاصّة بالمسلمين، ورفض أشكال التعددية في التعليم، وتنامي الشعور بالرفض في التوظيف وفي سوق العمل... إلخ. تجني فرنسا نتائج سالبة نتيجة سياساتها الفاشلة في إدماج المهاجرين وفي لائكيّتها المهلوسة التي أججت مشاعر الإسلاموفوبيا.
