ARTICLE AD BOX
شكّل الرئيس السوري أحمد الشرع، مساء أول من أمس السبت، هيئتين وطنيتين مستقلتين، هيئة العدالة الانتقالية وهيئة المفقودين، في خطوة تمهّد الطريق أمام مقاربات قانونية مع الإرث الثقيل من الانتهاكات التي ارتكبت على مدى نحو 14 عاماً، في عهد نظام بشار الأسد. بيد أن لجهات حقوقية ومختصين ملاحظات على حيثيات هذه الخطوة التي لطالما طالب بها السوريون لوضع آليات قضائية واضحة لمرتكبي الجرائم والانتهاكات، لتعزيز الثقة بالدولة، للحيلولة دون ظهور "عدالة انتقامية" تهدّد السلم الأهلي في البلاد بعد نزاع طويل.
هيئتان بمهام محدّدة
واستند الشرع على "أحكام الإعلان الدستوري والصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية"، بتشكيل "الهيئة الوطنية للمفقودين"، و"الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" بهدف كشف مصير "آلاف" من المخفيين قسراً. وأناط الشرع بـ"الهيئة الوطنية للمفقودين"، وفق مرسوم، "مهمة البحث والكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسراً"، و"توثيق الحالات، وإنشاء قاعدة بيانات وطنية، وتقديم الدعم القانوني والإنساني لعائلاتهم". أما "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية"، فتُعنى بـ"كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب بها النظام السابق، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية".
فضل عبد الغني: الملاحظات تبعد الهيئتين عن الاستقلالية
وللهيئتين صلاحيات الاستقلال المالي والإداري واعتبارهما "شخصية اعتبارية"، وتمارسان المهام المنوطة بهما كل على حدة في جميع أنحاء الأراضي السورية، بحسب ما جاء في نصّ المرسوم. وكُلف محمد رضى جلخي، برئاسة "هيئة المفقودين"، وهو عميد كلية العلوم السياسية في جامعة دمشق، وحاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة إدلب، وكان عضواً في لجنة صياغة مسودة الإعلان الدستوري في سورية. وكُلّف بتشكيل فريق العمل ووضع النظام الداخلي خلال مدة أقصاها 30 يوماً من صدور المرسوم. بينما جرى تكليف عبد الباسط عبد اللطيف، الأمين العام السابق للائتلاف الوطني السوري، برئاسة هيئة العدالة الانتقالية السورية، وهو ضابط شرطة انشق عن نظام الأسد في عام 2012، يحمل إجازة في الحقوق من جامعة حلب عام 1986. وكُلّف أيضاً بتشكيل فريق العمل ووضع النظام الداخلي خلال مدة أقصاها 30 يوماً.
وفور إسقاط نظام الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي، تعالت الأصوات المطالبة بالاهتمام بمسار العدالة الانتقالية في البلاد، لتعزيز السلم الأهلي، وعدم فتح الأبواب أمام عمليات انتقامية فردية ربما تخرج عن السيطرة وتدفع البلاد إلى الفوضى الأمنية. وكان مؤتمر الحوار الوطني السوري، الذي عقد في فبراير/شباط الماضي، شدّد في مخرجاته على أهمية العدالة الانتقالية، وضرورة محاسبة المسؤولين عن الجرائم والانتهاكات المرتكبة في عهد نظام الأسد.
وارتكب النظام السوري السابق على مدى نحو 14 عاماً، الكثير من المجازر بحق السوريين بمختلف صنوف الأسلحة بما فيها تلك المحرمة دولياً، وقتل تحت التعذيب في سجونه عشرات آلاف المعتقلين. واعتقل جهاز الأمن العام في الحكومة السورية الجديد منذ إسقاط نظام الأسد، المئات من المتهمين بارتكاب مجازر وتجاوزات بحق السوريين في مختلف المحافظات السورية، ولم يُعرض أيّ منهم حتى اللحظة على القضاء بشكل معلن على الأقل. وعلى مدى سنوات الثورة السورية الطويلة، ارتكبت جهات أخرى عدة غير النظام، جرائم ومجازر وتجاوزات، سواء من بعض المجموعات التي كانت تُحسب على فصائل المعارضة، أو من تنظيمات متشددة مثل تنظيم داعش، أو قوات ذات صبغة مناطقية أو عرقية مثل "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، ويبدو أنها ما تزال خارج نطاق الاهتمام على الأقل في الوقت الراهن. ويخشى البعض من أن تطبيق ما يطلقون عليه مبدأ "عدالة المُنتصر" ربما يؤدي إلى إفلات كثيرين ارتكبوا جرائم ومجازر وتجاوزات خلال سنوات الحرب بحق مدنيين سوريين من العقاب.
رؤية متكاملة لعمل هيئة العدالة الانتقالية
وفي هذا الصدد، قال الحقوقي غزوان قرنفل، في حديث مع "العربي الجديد" إنه "كنا ننتظر تشكيل هاتين الهيئتين"، مضيفاً: إصدار مرسومين بإنشائهما خطوة بالاتجاه الصحيح. واستدرك: لكن حصر عمل هيئة العدالة الانتقالية بجرائم طرف واحد لا يؤشر أبداً أن الهدف هو العدالة. ما حصل في هذه النقطة تحديداً بمثابة إصدار صك براءة لقتلة وخاطفين ومرتزقة استباحوا حياة وكرامة وحقوق الكثير من السوريين. واستبعد قرنفل حصول هيئة العدالة الانتقالية على هامش كبير من الاستقلالية، متسائلاً: إذا كان القضاء مدجناً فهل ستتمكن هيئة مآلها القضاء من الخروج عن أسر السلطة؟
وتواجه خطوة تشكيل الهيئتين خاصة تلك المتعلقة بـ"العدالة الانتقالية"، انتقادات من قبل جهات حقوقية، ومنها الشبكة السورية لحقوق الانسان التي أخذت على عاتقها توثيق الانتهاكات التي كانت تحدث أثناء سنوات الصراع. وأوضح مدير الشبكة، فضل عبد الغني، في حديث مع "العربي الجديد"، أن الشبكة أصدرت قبل أيام رؤية متكاملة للعدالة الانتقالية في سورية "استناداً إلى خبرتها الميدانية الممتدة على مدار 14 عاماً"، تقوم على "فهم عميق للسياق السوري وخصوصياته الفريدة، وتستلهم أفضل الممارسات الدولية في مجال العدالة الانتقالية". وبيّن أن الشبكة دعت إلى إنشاء هيئة وطنية للعدالة الانتقالية "تتمتع باستقلالية مالية وإدارية تامة عن السلطة التنفيذية، مع صلاحيات واسعة تتيح لها القيام بمهامها بفعالية ونزاهة". كما دعت الشبكة، وفق شرحه، إلى أن "تضم هيئة العدالة الانتقالية خبراء متخصصين من اختصاصات متنوعة، وتراعي في تشكيلها بدقة التنوع الديني والعرقي والسياسي للمجتمع السوري، مما يضمن تمثيلاً شاملاً وعادلاً".
وأشار عبد الغني إلى أن الشبكة دعت أيضاً إلى تشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" من قبل المجلس التشريعي، وليس بمرسوم من رئيس الجمهورية "لأن ذلك يمنحها الشرعية ويعالج معضلة التفويض ويحقق شمولية أكبر لأصحاب المصلحة من التشكيل من الضحايا، ويضعها في إطار قانوني بحيث تكون مستقلة تماماً عن السلطة التنفيذية". ورأى أن "تشكيلها بمرسوم يعني منح السلطة التنفيذية دوراً فيها"، مضيفاً أن "المرسوم عيّن رئيسي الهيئتين من دون محدّدات ومعايير وطلب منهما تعيين الأعضاء ما يعني أن السلطة التنفيذية هي عملياً من عيّنتهم". وبيّن أن المرسوم "لم يشر إلى مشاركة منظمات المجتمع المدني، وجهات ومنظمات حقوقية، وروابط للضحايا"، لافتاً إلى أن "هذه الملاحظات تبعد اللجنة عن الاستقلالية". وأكد في هذا السياق، أن "اختيار الأعضاء يجب أن يستند إلى معايير الكفاءة والنزاهة والاستقلالية، مع مراعاة التمثيل العرقي والديني والسياسي"، داعياً إلى "دمج العدالة الانتقالية ضمن خطط الإصلاح المؤسسي في قطاعي الأمن والقضاء، لتبني نهج متكامل يعالج إرث الانتهاكات ويمنع تكرارها".
رضوان زيادة: يجب أن يعكس أعضاء الهيئة كل المكونات السورية
ووفقاً لقاعدة بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد وُثّق مقتل ما لا يقل عن 231 ألف مدني، من بينهم 202 ألف قُتلوا على يد قوات نظام الأسد، خلال النزاع. كما تمّ توثيق 157 ألف حالة إخفاء قسري، إضافة إلى استخدام أسلحة محرمة دولياً بشكل ممنهج، حيث ألقى الطيران الحربي ما لا يقل عن 81 ألفاً و916 برميلاً متفجراً، ونفّذ 217 هجوماً كيميائياً، و252 هجوماً بذخائر عنقودية. وقد أدت هذه الانتهاكات الممنهجة إلى تشريد قرابة 14 مليون سوري، أي ما يعادل نصف سكّان سورية، بين نازح داخلي ولاجئ في دول الجوار والعالم، وفق الشبكة. وتلجأ الدول التي تشهد نزاعات داخلية إلى تشكيل هيئات ولجان مهامها تطبيق العدالة الانتقالية لتعزيز الثقة بالسلطة الجديدة، ومنع الانجرار نحو عمليات انتقامية فردية يمكن أن تُعيد البلاد إلى دورة العنف مرة أخرى، وهو ما يضرب السلم الأهلي في الصميم.
وبحسب مركز الحوار السوري للدراسات، "تنطوي العدالة الانتقالية بوصفها منظومة شاملة ومتكاملة ومتضمّنة كمّاً متنوّعاً من الآليات التي تُصنّف عادة إلى نوعين رئيسيين، وهما: الآليات القضائية والآليات غير القضائية". والآليات القضائية، بحسب المركز، تقوم على أساس الملاحقة القضائية لمرتكبي الجرائم والانتهاكات، وعادة ما تُركّز على كبرى الجرائم التي يمكن اعتبارها انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. أما الآليات غير القضائية، فتتضمن "جبر الضرر"، وإعادة بناء المؤسسات المتورّطة في ارتكاب الانتهاكات، والعزل السياسي، وحفظ الذاكرة الوطنية لضمان عدم تكرار الاضطهادات.
من جهته، رأى الباحث السياسي، رضوان زيادة، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية خطوة مهمة في هذا الإطار"، ولكنه أبدى "ملاحظات" على طريقة التشكيل، موضحاً أنه "يجب أن تكون هناك عملية تشاركية مع روابط الضحايا ومنظمات المجتمع المدني، وأن يعكس أعضاء الهيئة كل المكونات السورية". كما رأى "وجوب إجراء نقاش وطني لتعزيز مكانة الهيئة ودورها". كما سجّل ملاحظة "على الشخص الذي كُلّف بتشكيل هيئة العدالة الانتقالية (عبد الباسط عبد اللطيف)، "لجهة ضعف الخبرة على هذا الصعيد ما يعيق نجاح عمل الهيئة"، وفق رأيه، معتبراً أن "نجاح هيئة الهيئة يعني نجاحاً للمرحلة الانتقالية برمتها".
بدوره، رأى المحامي والخبير الدولي عبد الناصر حوشان، في حديث مع "العربي الجديد"، أن إصدار مرسومي إنشاء هيئتي "المفقودين" و"العدالة الانتقالية" يأتي في سياق تنفيذ مضامين الإعلان الدستوري ومخرجات الحوار الوطني، مضيفاً أن "هذه خطوة قانونية مهمة لتطبيق مبادئ العدالة الانتقالية التي تقوم على محاسبة المجرمين وهذا سيتولاه القضاء، وإنصاف الضحايا وجبر الضرر والتعويض". ولفت إلى أن "من مقتضيات تطبيق العدالة الانتقالية، البحث وتقصي الحقائق لتحقيق السلم الأهلي والمصالحة الوطنية"، مشيراً إلى أن "هناك جانبين: الأول قانوني والثاني بما يتعلق بموضوع المفقودين". وأوضح أن "أهالي المفقودين من حقّهم معرفة مصير أبنائهم وأمكنة دفنهم، لتكريم ذكراهم وإعادة دفنهم وفق الشرع، ولا يمكن تحقيق هذا الحق إلا بموجب هيئة مختصة لمعرفة مصير المفقودين والبحث عن أماكن دفنهم ضمن المقابر الجماعية". وبيّن حوشان أن "أغلب المفقودين هم نتيجة اعتقال تعسفي أو إخفاء قسري، وهذه تعد جرائم حرب تستدعي محاسبة من قاموا بها"، مشدداً على أن "عمل هيئة المفقودين سيشمل كل الجغرافيا السورية وليس مناطق بعينها".
