وثائقي "شارع الحمرا"... القصة البيروتية منذ بدايتها

1 week ago 6
ARTICLE AD BOX

في فيلمه الوثائقي الجديد، "شارع الحمرا" الذي عُرض أخيراً في دار النمر البيروتية، ينطلق المخرج اللبناني، أنطوان كبّابة، من جذور هذا المكان، حين لم تكن الحمرا سوى أراضٍ مزروعة بالصبّار والأكيدنيا، قبل أن يتحول اسمها إلى عَلَمٍ مدني، إثر صراع تاريخي بين عائلتي تلحوق والحمرا، انتصرت فيه الأخيرة، ودفعت بتلحوق بالاتجاه نحو الجبل، مثبتة اسمها في الذاكرة والمكان. تتتالى المشاهد ويتنقّل كبّابة بين معالم الشارع، من سينما الإتوال، مروراً بمطعمها الباريسي، إلى أرصفة تشهد على تحوّلات اللهجات والوجوه، حيث لم يعد المارة هم أنفسهم، لكن الحنين بقي كما هو. يتأجج الحنين ونتذكر الخياط وصالات السينما ومحلات الفايبر والبينغو بوصفها أشياء منقرضة.
في الصالة، لم يكن الحضور مجرّد متلقٍّ، بل بدا وكأن الفيلم أعاد لكل فرد ذاكرة شخصية. كلما ظهر معلم أو مقهى، نادراً ما نجا من التبدّلات، تعالت الأصوات بذكر اسمه، كأن المشاهدة تحوّلت إلى طقس اعتراف جماعي، والمكان إلى مرآة داخلية تعكس علاقة الناس بتاريخهم.
لكن الفيلم لا يكتفي باستحضار النوستالجيا. فهو عمل تأمّلي يقرأ تحوّلات شارع الحمرا كما تُقرأ المدن الكبرى: بين ذروة حضوره في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إذ كان ملتقى النخب الفكرية والفنية والسياسية من العالم العربي، وبين تعثّره بعد الحرب الأهلية، حين غاب وهجه لصالح فضاءات تجارية وسياحية طغت على روحه الثقافية.
يتنقّل الفيلم بين وجوه الحمرا المتعدّدة، من بائع الصحف إلى حانة احتضنت نقاشات الشعراء والمثقفين، مروراً بمحالّ الألبسة الجاهزة التي أصبحت جزءاً من المشهد الاستهلاكي الجديد. يحاور العمل الجميع، من دون أن يفرض سردية واحدة، فيغدو الشارع هنا كولاجاً من الأصوات واللهجات والانتماءات، لا يحوي هوية واحدة، وإنما طيف من التحوّلات والرؤى المتضاربة.
اقتصادياً، يرصد كبّابة تحوّل الحمرا من مساحة طبقة وسطى مثقفة إلى ساحة تهيمن عليها المصارف، ومحلات الماركات العالمية، والمشاريع العمرانية التي تبتلع الذاكرة الحضرية شيئاً فشيئاً. ومع ذلك، لا يغيب عن الفيلم التمسّك ببعض أشكال المقاومة الثقافية، من عروض مسرحية صغيرة، إلى رسومات تُباع على الأرصفة، ومقاهٍ ما زالت تقدّم الأرجيلة والكتب معاً، كأنها تحاول الحفاظ على نبض خافت من زمنٍ مضى.
ما يُميز العمل هو سرده الإنساني، الذي لا يعظ أو يُملي، بل يستمع. ينسج الفيلم حكاية الشارع من ألسنة ناسه، من شظايا الذكريات اليومية، وكأن الحمرا لا تُروى بل تنطق بنفسها، وتُشاهد كما لو كان المخرج عاشقاً يروي لنا فصول حنينه.
أنطوان كبّابة، صاحب التجربة العميقة في توثيق الذاكرة الجماعية والتحوّلات الاجتماعية في لبنان، يقدّم هنا عملاً يتجاوز الفيلم الوثائقي التقليدي، ليصبح وثيقة حية عن شارع لا يموت، بل يتحوّل باستمرار. من بيروت الستينيات إلى بيروت ما بعد الانهيار، من زمن الكتب والمسرح إلى زمن البطاقات المصرفية والإعلانات المضيئة، تبقى الحمرا مساحة مُلتبسة، فيها من الماضي ما يكفي لنحلم، ومن الحاضر ما يكفي لنحزن.
واليوم، إذا مررت بشارع الحمرا، ستلمح بقايا الحكايات بين لوحات الإعلانات والواجهات اللامعة. هنا مقهى قديم أقفل أبوابه، وهناك مكتبة صمدت رغم كل شيء. تصادف مسرحاً بلا جمهور، وموسيقياً يعزف في الظل، كأن الشارع يهمس لنفسه: "ما زلت هنا، وإن تغيّرت ملامحي".
 

Read Entire Article