ARTICLE AD BOX

<p class="rteright">من الفيلم الفرنسي"قضية 137" (ملف الفيلم)</p>
في مهرجان كانّ السينمائي الـ78 (13 - 24 مايو "أيار")، الذي عرض فيه جديده ضمن المسابقة، أكد مول مرة أخرى بعد عمله الأخير "ليلة الثاني عشر"، أنه مخرج ذو طاقة استثنائية في خلق نصوص بصرية تعكس الواقع بكل قسوته وتعقيداته. فيلمه هو إلى الآن أحد أهم ما شاهدناه في الأيام الأولى لهذا الحدث الفرنسي الدولي الذي لا يزال في بدايته.
"قضية 137" ليس مجرد فيلم درامي بوليسي، إنما يأتي في إطار تراث طويل من الأفلام الفرنسية التي تناضل من أجل الحقيقة وتنقب في التوترات الاجتماعية والسياسية بشجاعة لا مثيل لها، وثمة دائماً في هذه الأفلام من يقف بالمرصاد من داخل المنظومة. الفيلم يستعيد تلك المدرسة السينمائية التي تشارك في تشكيل وعي الجمهور السياسي، ولكن من دون اصطفاف قائم على الخير والشر. في هذا السياق، يعيد مول إلى الأذهان أفلاماً كلاسيكية تلامس تعقيدات السلطة والحقيقة، وتقدم نموذجاً سينمائياً يتم فيه تقاطع التحقيقات البوليسية مع القضايا الاجتماعية الكبرى.
تاريخياً، يعرف مهرجان كان بقدرته على إثارة الجدل، ويصعب حصر عدد الأفلام ذات الطابع الفضائحي التي عرضت هنا. إلا أن فيلم مول يبتعد عن هذا النمط من السينما، فهو يأتي بمقاربة مغايرة، كأن يضرب بيد من مخمل. صحيح أن الفيلم سياسي بالدرجة الأولى، ويعكس الواقع الذي عاشته فرنسا في عهد الرئيس ماكرون، ولكن، وكما قال المفوض العام تييري فريمو مراراً، فإن المهرجان يتخذ طابعاً سياسياً عندما يقرر السينمائيون التوجه في هذا الاتجاه، وهو الأمر نفسه الذي قد يحدث إذا قرر هؤلاء السينمائيون صناعة أفلام رومانسية.
إذاً، يعود بنا الفيلم إلى 2018، في واحدة من أعنف فترات تاريخ فرنسا المعاصر، أي أثناء تظاهرات "السترات الصفر". كانت هذه الاحتجاجات تعبيراً عن الغضب الشعبي ضد سياسات الرئيس ماكرون، وما صاحبها من مظاهر عنف، سواء لدى المتظاهرين أو قوات الأمن. في قلب هذه الأحداث، نشهد مأساة عائلة من مدينة مهمشة، بعدما يصاب أحد أبنائها برصاصة مطاطية من بنادق الشرطة فتصيبه بإعاقة دائمة. تبدأ محققة تدعى ستيفاني (ليا دروكير)، تعمل في "الإدارة العامة للرقابة على الشرطة"، في التحقيق في الحادثة، فتكتشف من كثب حدود العدالة في ظل نظام أمني يتحصن خلف مبررات "المصلحة العامة"، وعدم المساس بعناصر الشرطة الذين يحمون الوطن، خصوصاً عند الهجمات الإرهابية.
الصراع الداخلي
العمق الذي يميز "قضية 137" هو معالجته الأخلاقيات والصراع الداخلي الذي يعصف بشخصية ستيفاني. هي موظفة في جهاز الشرطة، تتبنى مبدأ العدالة بحماسة والتزام شديدين، ولكن مع تقدم الأحداث، نجدها تواجه عوائق كثيرة، من بينها التوتر بين وظيفتها المهنية وواقعها الاجتماعي، فهي تتشارك مع الضحية (تأتي من المدينة نفسها)، بقدر ما تتشارك مع الشرطة. وعلى رغم التزامها العميق مبادئها، تكتشف أن التحقيقات تتجاوز الحقائق البسيطة وتخترق مفاهيم العدالة التي تتبناها، مما يجعلها أمام معضلة كبيرة بين الواجب والتعاطف. وبعد أن تأخذ القضية مساراً متشابكاً، يتصاعد التوتر حول سؤال أساس: هل تكون ستيفاني قادرة على محاسبة أفراد الشرطة المسؤولين عن الحادثة؟ في مواجهة حصار المؤسسات الأمنية الحريصة على حماية النظام القائم، تقف ستيفاني على مفترق طرق، هل تكون قادرة على مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية؟
إذا كانت أفلام الثريللر تعتمد على التقطيع السريع، فإن مول هنا يعرض لنا فيلماً يتسم بالبطء المدروس والتوتر الصامت. بدلاً من أن تستهلكنا حركة سريعة أو مشاهد تقليدية، يقدم الفيلم حالاً من الإحساس المتصاعد الذي يخرج من حوارات مركزة، تفاصيل دقيقة ونظرة فاحصة على آليات النظام البوليسي. التكنولوجيا والوسائل الحديثة في التحقيقات تظهر على الشاشة كأداة مزدوجة، تخدم العدالة من جهة، ولكن توظف أيضاً في الحفاظ على السلطة من جهة أخرى. من خلال سرد متقن لحكاية انتهاك، يأتي الفيلم بنقد ذكي وبناء للمؤسسات وللعلاقات المتشابكة داخله، مضيئاً على هشاشة الثقة بين المواطن والدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول مول إنه كثيراً ما اهتم بالكيفية التي تعمل بها "الإدارة العامة للرقابة على الشرطة" في فرنسا، خصوصاً أن الموضوع يتعلق بعناصر شرطة يحققون في تصرفات زملائهم، وهذا وحده مادة تليق بالسينما لكونها حمالة أوجه. هؤلاء المحققون يعيشون وضعاً لا يحسدون عليه، فهم غالباً ما يتعرضون للازدراء أو حتى الكراهية من زملائهم في العمل، في حين ينتقدون من بعض وسائل الإعلام التي تتهمهم بالتناقض، لكونهم يقيمون العدالة داخل جهاز الشرطة نفسه. ولعل رغبة مول في "اختراق" هذا الجهاز يأتي من حقيقة أن هناك القليل من الوثائق المتوافرة حول "الإدارة العامة للرقابة على الشرطة"، من كونها مؤسسة كانت فترة طويلة مغلقة وغير شفافة، نادراً ما تظهر في الأفلام أو الروايات، وعندما تظهر يكون ذلك غالباً في شكل عابر، وغالباً ما تكون في صورة نمطية أو مبالغ فيها. يقول مول: "هذه الندرة زادت من فضولي. بفضل نجاح فيلم "ليلة الثاني عشر"، وبفضل الانفتاح الذي أظهرته المديرة الجديدة للإدارة، التي كانت للمرة الأولى قاضية وليست شرطية، أتيحت لي فرصة نادرة للغوص في أجواء عمل هؤلاء الناس، فتمكنت من متابعة المحققين والمحققات أثناء تأدية مهامهم".
أخيراً، يصعب الحديث عن الفيلم من دون الإشادة بليا دروكير في دور ستيفاني. فهي تجسد شخصية معقدة تجمع بين العاطفة والواجب. تجسد دروكير ببراعة الشخصية التي تحاول تحقيق العدالة في عالم يعصف به الفساد، وتواجهها عواقب المواقف الأخلاقية المرهقة. من خلال شخصيتها، يعكس الفيلم صورة التوتر بين الوفاء للمبادئ الشخصية والتزام المنظومة التي هي، على رغم كل شيء، جزءاً منها.