ARTICLE AD BOX
تواجه الفاتيكان أزمة مالية حادة في الوقت الذي ينتظر فيه العالم تنصيب البابا لاوون الرابع عشر. إذ كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية، في تقرير موسّع، عن تفاصيل ما وصفته بـ"الفوضى المالية" المستشرية في أروقة الكرسي الرسولي، التي فشل البابا الراحل فرنسيس في معالجتها رغم الجهود الحثيثة التي بذلها طوال 12 عامًا.
مع تضاعف العجز المالي ثلاث مرات خلال فترة حبريته، وتآكل صندوق التقاعد الكنسي، بدا واضحًا أن الحملة التي أطلقها البابا الراحل لإصلاح الإدارة المالية لم تثمر النتائج المرجوة. ورغم مرضه في أيامه الأخيرة، كان البابا فرنسيس يعمل على تنفيذ خطة طارئة لترتيب ما يمكن ترتيبه قبل أن يسلم الأمانة لخلفه.
منذ انتخابه في 2013، سعى البابا فرنسيس لمواجهة الثقافة الإدارية القائمة في الفاتيكان، التي تتسم بالإهمال المالي والضبابية، فقد استقدم مدققين ماليين محترفين، ونظّم ورشاً تدريبية لرهبان يرفضون التزام قواعد المحاسبة الحديثة. ومع ذلك، واجه مقاومة شرسة من داخل البيروقراطية الفاتيكانية التي ظلت حجر عثرة أمام كل محاولة إصلاح.
ويكشف التقرير عن محاولات من رجال دين لإخفاء الأموال عن عيون المدققين، تحت ذرائع "أمنية"، خصوصاً تلك المتعلقة بتمويل الإرساليات التبشيرية في بلدان يُعد فيها التبشير محظورًا. ومع غياب الشفافية، بات الفاتيكان – رغم ثرواته الفنية والتراثية الهائلة – يواجه وضعًا أشبه بالإفلاس المؤسساتي.
ومن المفارقات التي يسلط التقرير الضوء عليها، أن الكرسي الرسولي يملك كنوزًا فنية لا تقدّر بثمن، مثل لوحات مايكل أنجلو وكارافاجيو ومخطوطات دينية نادرة، لكنه يسجّل قيمتها المحاسبية بـ"يورو واحد"، تعبيرًا عن رمزية الإرث الروحي على حساب القيمة السوقية، ومع غياب النية لبيع هذه الكنوز، يجد الفاتيكان نفسه عاجزًا عن تغطية النفقات الأساسية.
ويبدو أن صندوق التقاعد أحد أبرز مصادر القلق، إذ تُشير التقديرات إلى أن التزاماته قد تتجاوز 1.5 مليار يورو، في ظل غياب مصادر تمويل مستدامة، وارتفاع النفقات، وعدم كفاءة الإدارة.
تاريخيًا، ارتبط بنك الفاتيكان، وهو ذراع مالية حيوية للدولة، بفضائح مالية متكررة. من أبرزها تورّطه بانهيار بنك أمبروزيانو الإيطالي في الثمانينيات، الذي عُثر على رئيسه مشنوقًا تحت جسر في لندن، في حادثة لا تزال غامضة حتى اليوم. لاحقًا، وتحت ضغط أوروبي، بدأ البنك إصدار تقارير مالية سنوية، لكن الممارسات المالية غير الشفافة ظلت مستمرة.
في عهد البابا بنديكتوس السادس عشر، أنشئت وحدة لمكافحة غسل الأموال، غير أن النتائج كانت مخيبة، إلى درجة أن البنك المركزي الإيطالي منع في 2013 التعاملات الإلكترونية في الفاتيكان، ما دفع الحجاج إلى حمل النقود نقدًا أو الامتناع عن الشراء، في خطوة شكّلت إحراجًا كبيرًا للفاتيكان.
ولم يكن الوضع أفضل في عهد البابا فرنسيس، رغم محاولاته المتكررة للإصلاح. فقد شكّل أمانة خاصة للاقتصاد ترأسها الكاردينال الأسترالي جورج بيل، وعُيّن جان بابتيست دي فرانسو، المدير التنفيذي السابق لشركة مالية كبرى، لإدارة بنك الفاتيكان. لكن التوترات تصاعدت مع مؤسسات كنسية تقليدية، مثل مجمع العقيدة والإيمان، التي خشيت من فقدان استقلالية الإنفاق.
وواحدة من أبرز حلقات هذا الصراع كانت قضية ليبيرو ميلوني، المدقق المالي المعين من البابا، الذي كشف عن اختفاء نصف مليون دولار من مكتب العقيدة. ورغم رفعه التقارير إلى السلطات الفاتيكانية، لم تُتخذ إجراءات قانونية، بل طُلب منه حل المشكلة داخليًا.
واستمرت المواجهات، حتى طفت فضيحة الكاردينال بيتشو، الذي أُدين لاحقًا باختلاس أموال واستخدامها في صفقات مشبوهة، من بينها استثمار فاشل في عقار فاخر بلندن، كلف الفاتيكان نحو 200 مليون دولار.
وفي محاولة أخيرة لإعادة الانضباط المالي، خفّض البابا رواتب الكرادلة ثلاث مرات، وأوقف امتيازاتهم السكنية في الفاتيكان. كذلك طالب بوضع جدول زمني واضح لإنهاء العجز المالي. وفي رسالة وُقعت قبل وفاته بأسابيع، حذر من أن نظام التقاعد يعاني من خلل خطير، ما يستوجب قرارات صعبة لم يُكتب له اتخاذها.
أمام هذه التركة المعقدة، يجد البابا لاوون الرابع عشر نفسه أمام معادلة صعبة: كيف يمكن الحفاظ على طابع الكنيسة الروحي، والاستمرار في خدمة ملايين المؤمنين، وسط أزمة مالية قد تهدد بنيان المؤسسة الكنسية برمّتها؟