البعوض يلاحق أهالي غزة ويحول الليل إلى عذاب جماعي

1 week ago 6
ARTICLE AD BOX

مع دخول ساعات المساء في قطاع غزة، يتسلل البعوض من النوافذ المكسورة ويملأ الغرف المغلقة وخيام النزوح المهترئة، وتتحول الليالي الحارة إلى معركة يومية يخوضها الأهالي دون أسلحة. ولم تعد الحشرات الطائرة والزاحفة مجرد إزعاج موسمي، بل أصبحت ظاهرة صحية مقلقة تتفاقم يوما بعد يوم، تمس الصحة العامة بشكل مباشر في ظل تردي الظروف البيئية وتدمير مقومات الحياة الأساسية. وتزيد قسوة ظاهرة انتشار البعوض ومختلف أنواع الحشرات الطائرة والزاحفة في مدارس ومخيمات النزوح التي تضم مئات آلاف الفلسطينيين الذين فقدوا بيوتهم ويعيشون في ظروف معيشية وبيئية وصحية متزايدة التدهور.

جيوش من البعوض في غزة بلا رادع

تشير شهادات المواطنين إلى تفش كثيف لأسراب البعوض في مختلف أنحاء القطاع، خصوصا في المناطق المنخفضة، ومحيط برك تجميع المياه، والمخيمات المكتظة، والشوارع سيئة التصريف والغارقة في سيول المياه العادمة وأكوام القمامة. وتتشابك الأسباب خلف تفاقم الأزمة التي باتت تؤرق صباح وليل الفلسطينيين بفعل انتشار أكوام القمامة في الشوارع نتيجة نقص الوقود والآليات المخصصة لإزالتها، ما يتسبب بتحول تلك الأماكن إلى بؤر خصبة لتكاثر الحشرات، بينما ترجع البلديات عجزها عن التعامل مع الأزمة إلى الظروف الأمنية الخطيرة ونقص الإمكانيات.

وتؤدي سيول الصرف الصحي المكشوفة إلى تدفق مياهها إلى الأحياء والشوارع والمخيمات بفعل الانهيار المتكرر لشبكات التصريف التي تضررت خلال الحرب المتواصلة، ما يجعل تلك البرك الراكدة بيئة مثالية لبيض البعوض، حيث تعرضت البنية التحتية في القطاع لتدمير ممنهج خلال العدوان الإسرائيلي، ما شل قدرة البلديات على تشغيل مشاريع مكافحة الحشرات أو صيانة خطوط الصرف ومحطات المعالجة جراء الانقطاع التام في التيار الكهربائي منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.

وإلى جانب ذلك، يتسبب انقطاع الكهرباء في عدم قدرة السكان على تشغيل المراوح أو الأجهزة الطاردة للبعوض. في الوقت ذاته، يعجز الفنيون عن تشغيل معدات رش المبيدات أو شفط المياه، وسط نقص حاد في المبيدات والموارد التي تستخدمها البلديات.

حذرت وزارة الصحة في غزة من ارتفاع حالات الالتهابات الجلدية وحساسية الأطفال في المناطق المنكوبة

"أطفالي لا ينامون أكثر من ساعتين، أجسادهم مغطاة بالقرصات"، تقول الفلسطينية خديجة وهبة (42 عاما)، وهي ربة منزل من حي الزيتون، مضيفة: "نحاول إشعال الفحم، نرش الخل، نغلق النوافذ، لكن كل شيء بلا فائدة، الكهرباء مقطوعة، والمراوح لا تعمل". وتلفت وهبة، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى فشل كل المحاولات الخاصة برش المبيدات التي يتم بيعها في الأسواق، إذ إن فاعلية تلك المواد ضعيفة بفعل رداءة الإنتاج وعدم قدرتها على مواجهة الأسراب الكثيفة للحشرات الطائرة والمزعجة، موضحة أن إغلاق الشبابيك المصنوعة من النايلون في ظل ارتفاع درجات الحرارة أمر مزعج، خاصة في ظل عدم القدرة على تشغيل المراوح، إلا أنه يعتبر محاولة للتخفيف من حدة هذه الظاهرة المؤذية.

ولا تمتلك الفلسطينية سمية رشيد (37 عاما)، نوافذ لإغلاقها في وجه جيوش البعوض والناموس وغيرها من الحشرات، حيث تعيش مع أسرتها المكونة من أربعة أفراد داخل خيمة قماشية بعدما فقدت منزلها واضطرت للنزوح من مدينة بيت لاهيا، شمالي قطاع غزة. وتقول رشيد لـ"العربي الجديد"، إن المعركة اليومية مع الحشرات تشتد مع حلول ساعات المساء، حيث يقوم زوجها بتغطية فتحات القماش بالنايلون على الرغم من سوء التهوية داخل الخيمة الضيقة، واستخدام قطعة قماش لطرد أو قتل الحشرات، لكن الكميات الكبيرة تحول بينهم وبين حل الأزمة.

وتشير رشيد إلى أن إزعاج البعوض يتزامن مع الروائح الكريهة المنبعثة من سيول الصرف الصحي وأكوام القمامة المجاورة، وهو أمر يبقيها خائفة على مدار الوقت على أطفالها، خاصة في ظل نقص الأدوية والمراهم الخاصة بالتعامل مع الأزمة. 

وحذرت وزارة الصحة في غزة من ارتفاع حالات الالتهابات الجلدية وحساسية الأطفال في المناطق المنكوبة، إذ لا يعتبر البعوض مجرد إزعاج ليلي، بل ناقل محتمل للأمراض، منها الطفح الجلدي، والتهابات العين، وأمراض الحساسية، وأمراض وبائية في حال استمر الوضع دون معالجة.

ويوضح أخصائي الطب الوقائي والصحة العامة شرف الخالدي أن أزمة انتشار الحشرات الناتجة عن غياب النظافة وانتشار القمامة وسيول الصرف الصحي تعتبر أكبر من مجرد إزعاج ليلي أو اضطراب النوم، بل تهديد حقيقي للصحة العامة، مضيفا في حديث لـ"العربي الجديد"، أن البعوض ينقل فيروسات مثل حمى الضنك، والتهاب الدماغ، إلى جانب أمراض الحساسية والالتهابات، مشددا على أن البيئة الحالية مهيأة لتفشي الأمراض، خاصة في ظل حالة المجاعة ونقص الفيتامينات وسوء التغذية الناتجة عن فقدان الغذاء الصحي.

ويتابع الأخصائي: "لدينا أطفال مصابون بحساسية شديدة، مرضى ربو، وكبار سن، هؤلاء في خطر، الحل يتطلب معالجة جذرية تشمل إزالة المياه الراكدة، جمع القمامة، وتوفير المبيدات، وكلها غائبة أو ناقصة بسبب الحصار المشدد".

جهود مكافحة الحشرات محدودة

تؤكد البلديات من طرفها أن الإمكانيات شبه معدومة، وتطالب المجتمع الدولي والمؤسسات الإنسانية بتوفير الدعم العاجل لتشغيل مشاريع مكافحة الحشرات، وصيانة البنية التحتية المتدهورة، لكن حتى اللحظة تبقى هذه النداءات صوتا في فراغ الحصار. في هذا الإطار، يلفت المتحدث باسم بلدية غزة حسني مهنا إلى أن المدينة تعاني من أزمة حقيقية جراء نقص الإمكانيات وفقدان المعدات وعدم سماح الاحتلال بإدخال المعدات الثقيلة، ما تسبب بتكدس أكثر من 170 ألف طن من النفايات بشكل عشوائي وفي محطات مؤقتة دون القدرة على ترحيلها، إلى جانب عدم القدرة على تصريف المياه العادمة.

ويلفت مهنا، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أن الأزمة ما زالت قائمة على الرغم من الجهود المتواضعة التي يتم بذلها من طرف البلدية، وذلك بفعل تعنت الاحتلال والضعف الشديد في الإمكانيات، والدمار الكبير الذي لحق بالبلدية بعد تدمير نحو 133 آلية كانت تخدم مختلف المناطق السكنية. ولا تقتصر المعاناة في غزة على ضجيج الحرب أو صمت الحصار، بل تمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية، إلى النوم الذي يحرم منه الأطفال، وإلى بعوض صغير يحمل في جناحيه صورة كبيرة لمعاناة لا تنتهي.

Read Entire Article