ARTICLE AD BOX
يُعدّ اختيار "المرأة والطفل" في المسابقة الرئيسية للدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو/أيار 2025) لمهرجان "كانّ" حدثاً سعيداً لمخرجه الإيراني الشاب سعيد روستائي، وللسينما الإيرانية التي، لأول مرة في تاريخ المهرجان الأهمّ، تشارك بفيلمين في المسابقة نفسها، مع "تصادف بسيط" لجعفر بناهي.
نظراً إلى التاريخ المعقّد لبناهي مع سلطات بلده، حبساً ومنعاً من العمل لرفضه الانخراط في الإجراءات الرسمية المفروضة على تصوير الأفلام في إيران، وبعد تصويره خمسة أفلام "سرّاً" في بلده، وإرسالها "سرّاً" إلى مهرجانات دولية، تُعتبر مشاركته في "كانّ" حدثاً غير رسمي في إيران، ولم يعد يُثير جدلاً كما في السابق. لكنّ المفاجئ أنّ مشاركة روستائي، المخرج "النظامي" إذا صحّ التعبير، تُثير جدلاً حتى قبل العرض الأول لفيلمه.
كمعظم المخرجين الإيرانيين، يتّبع روستائي الطريق الرسمية لتحقيق الأفلام. يُقدّم السيناريو إلى الرقابة، ويتقيد به؛ أي إنه لا يُقدّم نصاً يلقى قبول الرقباء، ليُصوّر علناً، ثم يفعل ما يحلو له، كمحمد رسولوف في "بذرة التين المقدس" (2024) مثلاً، المعروض في المهرجان نفسه عام 2024. وهو، بعد انتهاء الفيلم، يتقدّم بطلب إجازة لعرضه في إيران، ولإرساله إلى المهرجانات. فعل هذا في أفلامه الثلاثة السابقة، باستثناء "إخوة ليلى" (2022)، الذاهب به إلى "كانّ" من دون انتظار موافقة السلطات، ما أوقعه في مشاكل، إذْ مُنع الفيلم من العرض، وصدر حكم عليه بالسجن ستة أشهر، ومُنع من إخراج الأفلام. لكنّ الإدانة والحظر رُفعا في النهاية بعد معركة قانونية. هذا لم يَحل اليوم دون أقاويل ضده من خارج إيران، بلغ بعضها حدّ اتهامه بالتعاون مع الحكومة، ووصم فيلمه الجديد بالدعاية لها.
لم تُعلَن مشاركة "المرأة والطفل" في المؤتمر الصحافي لتييري فريمو، المندوب العام للمهرجان (10 إبريل/نيسان الماضي)، الذي أعلن فقط "تصادفاً بسيطاً". وهذا، رغم توقعات سابقة لنقاد وصحف عالمية باشتراك "المرأة والطفل". أثار القبول المتأخر تساؤلات: أهذه ضغوط من الموزّع الفرنسي لاختيار الفيلم للمسابقة، أم لأنّه وصل متأخراً، ولم يُشاهد قبل المؤتمر بسبب العدد الكبير للأفلام؟ هناك في إيران من أكّد أنّ في النسخة النهائية للفيلم (المُرسلة) عيوباً، وأن المنتجين اقترحوا تنقيحها في حال قبولها، وهذا حصل.
بعيداً عن النقاشات الجانبية، أوردت صحف إيرانية أنّه لا ينبغي إغفال أنّ "السينما الإيرانية" دُعيت إلى "كانّ" مُجدّداً، بعد غياب سنوات عدّة، مع إغفالها إدراج مشاركة "بذرة التين المقدّسة" في الدورة السابقة، كأنه ليس فيلماً إيرانياً. كذلك استشهدت بتصريحات لسينمائيين إيرانيين، منهم محمد مهدي عسكر بور (رئيس دار السينما)، علّقوا فيها أهمية كبيرة على المشاركة الإيرانية في "كانّ"، وفي غيره من المهرجانات الدولية، بحيث يُسمع اسم إيران دولياً. لكنّهم طرحوا، في الوقت نفسه، ما يجري من جدل بسبب انتقاد فئات في القطاعين، الحكومي وغير الحكومي، نجاحات السينما الإيرانية.
المتداول في إيران انتقادات مسؤولين سياسيين لمخرجين، كبناهي ورسولوف، لمشاركاتهم في مهرجانات دولية، وتقديمهم صورة "سيئة" عن إيران. كذلك يتعرّض سينمائيون عديدون لهجومٍ، لعدم التزامهم الإجراءات الرسمية لصنع الأفلام. لكنْ، أحياناً تهاجم فئات من القطاع غير الحكومي السينما الإيرانية التي تعرض في المهرجانات لأسباب عدة، كما يحصل اليوم مع روستائي. مثلاً، اعتراض "جمعية صانعي الأفلام المستقلين الإيرانيين (ايفما)"، ومقرّها دبي، إذْ صرّح رئيسها المنتج كافه فارنام لـ"فاريتي" (5 مايو/أيار 2025) ظهور ممثلات في "المرأة والطفل"، كممثلة الشخصية الأولى باريناز إيزاديار، وهنّ يرتدين الحجاب الإلزامي الذي تخلّت عنه نساء عديدات في إيران. وترى الجمعية أنّ هذا يمثّل خيانة لحركة "امرأة، حياة، حرية"، وللشابات اللواتي لم يعدن يرتدين الحجاب.
بحسب "فارايتي"، وصف فارنام إظهار مخرج أنّ الناس لا يزالون يطيعون القواعد "الغبية" للحكومة "الغبية" تصويرٌ زائف لـ"مجتمعنا". واتهمت الجمعية روستائي بأنّه باع نفسه للحكومة الإيرانية، وأنّ "كانّ"، باختياره "المرأة والطفل"، متواطئ معها لإبراز ما زعموا أنّه فيلم دعائي أساساً.
لم يردّ المهرجان على ادعاءات الجمعية، التي أثارت تعليقات سينمائيين من داخل إيران وخارجها، رسمياً وفي وسائل تواصل اجتماعي. روستائي أصدر بياناً أرسله إلى "فارايتي"، وصف فيه فيلمه بأنّه مستقل: "(إنّه) عن امرأة تقف في وجه جميع الرجال الذين يواجهونها، وفي وجه مجتمع أبوي يحرمها حقوقها، بما فيها حقها في أنْ تكون أمّاً"، مضيفاً: "غريبٌ أنْ يتهمني أشخاص خارج إيران بالتعاون مع الدولة". هذا فقط لأنّه طلب تصريحاً منها، مُجبراً عليه.
عن هذا التفاوت بين آراء الداخل الإيراني ومعارضين في الخارج، والجدل حول المشاركة الإيرانية في "كانّ"، سألت "العربي الجديد" محمد أتاباي (كاتب وصحافي، مؤسّس "إيرانيون مستقلون"، أول شركة إيرانية خاصة للسينما المستقلة في إيران، ومقرها طهران)، فقال إنّ الحكم على هذا الوضع مُعقدٌ للغاية، مُعتبراً أنّ على الجميع أنْ يكونوا سعداء بوجود فيلمين إيرانيين في المسابقة، فهذا لمصلحتهم، وسيكون هناك مزيد من الأفلام الإيرانية في المهرجانات الدولية: "أفلامٌ لصانعي أفلام في إيران، فالعيش والعمل وصناعة الأفلام والفنون هنا ليست جريمة، كما يُلمّح معارضون". كذلك انتقدَ إيرانيين يعيشون في الشتات، ويشعرون أنّهم قادة معارضة، ويعرفون جيداً ما يجب على الإيرانيين فعله، مخاطباً إياهم: "من أنتم لتُملوا علينا كيف نعيش ونعمل؟". أضاف أنّ العيش في الخارج سهلٌ، ثم "يطلبون" من المقيمين في إيران مقاتلة النظام، والتصرّف كما يريدون هم. ووصف أتاباي الناس في إيران بأنّهم متعبون وخائبو الأمل، ولديهم ما يكفي من مشاكل سياسية واجتماعية واقتصادية، ولا يكترثون بما يقوله هؤلاء.
يدافع أتاباي عن السينما الإيرانية، ويتفهّم من يعيش في إيران، ويقول إنّ على شخصيات الأفلام التقيّد ببعض القواعد كالحجاب، وإلا فلن يتمكنوا من كسب عيشهم: "لا شكّ في أنّهم أحرار في اختيار كيفية ظهورهم في الشارع، ففتيات عديدات لم يعدن يغطّين شعرهن. لكنْ، أندين من يلتزم القواعد، ولو جزئياً؟ لا. لا يمكننا".
بردّه على سؤال الإنتاج الخاص، تساءل أتاباي: "إذا قرّر أحد الحصول على تصريح لإنتاج فيلم بأموال خاصة، أهذه خيانة؟ حين ينشر كاتب مؤلّفاته هنا، ويحصل على تصريح من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، أيخون شعبه؟ ما أعرفه أنّ سعيد روستائي حصل على تصريح من الوزارة، وأنتج فيلماً بأموال خاصة، فرنسية. لم أشاهد الفيلم بعد. ربما هناك قضايا أخرى متعلّقة به لاحقاً، لا أعلم بها".
وعن غموض قدوم روستائي إلى "كانّ"، يتردّد أنّ هناك شكوكاً كبيرة تحيط بذلك، بينما يُفهم من صحف إيرانية أنّ بناهي قادمٌ. وقال أتاباي إنّ بناهي موجود في طهران، ولا يعلم إنْ كان سيحضر، أو سيُمنع من السفر. لكنّه أنجز كل أعمال ما بعد الإنتاج في باريس، وسافر مرات عدّة، والسلطات تعلم بفيلمه الجديد.
