ARTICLE AD BOX
أثارت تصريحات وزير العدل المغربي، عبد اللطيف وهبي، موجةً من النقاشات، عقب إعلانه أن وزارته أنهت صياغة مشروع القانون الجنائي الجديد، الذي لا يزال قيد التداول داخل الحكومة. ويقترح المشروع في شقّ منه تحميل الآباء والأمهات، وكذلك المدرّسين، مسؤولية جنائية أو مالية عن الأفعال التي يرتكبها القاصرون، خاصة في حالات حمل السلاح الأبيض أو ممارسة العنف في الفضاءات العامة. ويُنتظر أن يُكرّس النص المرتقب، وفق ما جاء في تصريح الوزير، مبدأ "المساءلة العائلية" كآلية لضبط السلوك داخل المجتمع.
يحذّر الأخصائي النفسي الاجتماعي محمد حبيب، من مغبة هذا التوجه، قائلاً إن مشروع القانون، وإن بدا أنه يحمل نيات وقائية، إلا أنه "ينطوي على مخاطر نفسية واجتماعية عميقة". ويضيف في تصريح لـ "العربي الجديد": "حين يرى الطفل أن أحد والديه أو أستاذه يُحاسب أو يُعاقب بسببه، فإن أول ما يتولد داخله هو شعور عميق بالذنب، قد يتطور إلى ما نسميه في علم النفس بـ"الذنب السام"، (toxic guilt)، الذي يتحول لاحقاً إلى جلد للذات، وكره للنفس أو على العكس، قد يتبنى سلوكاً عدوانياً، فيرفض المجتمع ومؤسساته لأنه شعر بأن وجوده سبب لمعاناة الآخرين".
ويؤكد حبيب، أنّ الحل لا يكمن في سَنّ قوانين زجرية، بل في بناء منظومة وقائية تنطلق من تمكين الأسرة والمدرسة، عبر التأهيل النفسي والمواكبة الاجتماعية. ويتابع: "الوقاية لن تتحقق عبر العقاب، بل من خلال إعادة تمكين الأسرة والمدرسة، حتى لا يكون المربي والمتعلم خصمين في محراب القانون، بل شريكين في مشروع حياة آمنة".
وفي السياق ذاته، يقول الخبير التربوي رشيد عفيف إن تصريح وزير العدل حول تفكير الوزارة في تحميل مسؤولية ما يقترفه التلاميذ خارج المؤسسات التعليمية للأساتذة ينطوي على الكثير من الجدل السياسي والقليل من الضبط القانوني والتشريعي. وهذا الأمر يحتاج فعلاً إلى توضيح". ويتساءل عفيف: "هل المقصود هنا التلميذ الذي تغيّب عن مدرسته، أو غادرها بمحض إرادته قبل انتهاء حصته الدراسية وارتكب فعلاً إجرامياً خلال هذه المدة؟ أم التلميذ الذي أُخرج عنوة من الفصل أو المدرسة من طرف أستاذ أو إطار تربوي أو إداري، ثم تورّط بعد ذلك في جناية أو جنحة؟".
يتابع: "إذا كانت الحالة الثانية هي المقصودة فمن المعروف أن القوانين الحالية تمنع إخراج التلاميذ من الفصول أو المدارس قبل انتهاء حصصهم الدراسية، ويتحمل الأساتذة والأطر الإدارية مسؤولية مدنية في هذا الإطار. على سبيل المثال إذا تعمّد أستاذ إخراج تلميذ من الفصل الدراسي وتعرّض التلميذ إلى حادث بعد مغادرته المؤسسة فغالباً ما يتعرّض الأستاذ للمساءلة القانونية".
ويضيف: "أما إذا كان اتجاه النقاش الذي أشار إليه وزير العدل يسير نحو تحميل الأستاذ والمدرسة مسؤولية أخلاقية أو معنوية أو حتّى جنائية حول كلّ ما يحدث من انحرافات وجرائم وسلوكيات غير مدنية في المجتمع، فإن الأمر قد يتحوّل إلى ما يشبه مطاردة الساحرات في القرون الوسطى عندما كان المجتمع ينسب إليهنّ كل شرّ. وهذا التوجه ينطوي على خطر محدق يتمثل في تعويم النقاش الحقيقي وتجاهل المعضلات الفعلية التي تعطّل تطوير المنظومة التربوية من جهة، وتؤدي بطريقة غير مباشرة إلى الحد من تعزيز السلوك المدني وقيم المواطنة من جهة أخرى".
ويتابع: "يجب أن نعترف أن نساء التعليم ورجاله يتحمّلون مسؤولية بيداغوجية وتعليمية، فهم مسؤولون عن نقل المعرفة المدرسية إلى التلاميذ وتبسيطها، وتنزيل البرامج الدراسية والمقررات وفقاً لما تنص عليه التوجيهات الرسمية. قد تبدو هذه المسؤولية بالنسبة لنا أمراً مفروغاً منه ومجرد عملية روتينية، لكنها تمثل في الحقيقة صلب العملية التعليمية والتربوية، وهي تفرض على جميع الفاعلين في هذا المجال تحديات كبيرة".
أما النظر إلى مشكلة تنامي انحرافات المراهقين والقاصرين من زاوية واحدة، فإنها نظرة قاصرة وفق المتحدث، ولا يمكن أن تسهم في إشراك جميع الفاعلين سواء تعلّق الأمر بالأسرة أو المدرسة أو المجتمع المدني أو مؤسسات الدولة في التصدي لهذه المعضلة. يضيف عفيف: "مثلما قضينا على الظاهرة الإرهابية بمقاربة شمولية دينيةٍ وتربويةٍ واجتماعيةٍ وأمنيةٍ، فإننا مطالبون أيضاً بالتفكير في بلورة رؤية مشابهة ومتعددة الأبعاد لإنقاذ أبنائنا وأطفالنا من براثن الانحراف والعنف والجريمة، وأن نتخلص من منطق البحث عن كبش الفداء".
تحديات نفسية واجتماعية
يتجه مشروع القانون الجنائي الجديد، نحو فرض غرامات مالية قد تصل إلى ما يعادل مليون درهم مغربي (الدولار الواحد يساوي حوالي تسعة دراهم) على أولياء أمور القاصرين، في حال ارتكاب أبنائهم لجرائم، خصوصاً تلك المتعلقة بحيازة السلاح الأبيض أو ارتكاب أعمال عنف في الفضاء العام. ويشير وهبي إلى أن هذا التوجه يهدف إلى تحفيز أولياء الأمور على تحمل مسؤولياتهم التربوية، موضحاً أن فرض غرامات قد تصل إلى مليون درهم من شأنه أن يدفع الآباء إلى مراقبة أبنائهم عن كثب، عوض تركهم في الشوارع دون توجيه أو رقابة.
في حال إقرار القانون، ستُطرح تحديات نفسية واجتماعية معقدة، بحسب تحذير الأخصائي محمد حبيب، الذي أشار إلى خمسة إشكالات رئيسية قد تترتب عن تطبيقه: انعدام الثقة داخل الأسرة حيث تشحن العلاقة بالتوتر وغياب التفاهم، صمت القاصر خوفاً من العقاب، مما يضعف فرص التدخل المبكر لتصحيح السلوك، انكماش دور الأستاذ خشية المسؤولية القانونية، نمو السلوك العدواني أو الانطوائي عند القاصر، تشويه صورة القانون داخل المدرسة والأسرة ما يقوض قيم المواطنة والانتماء.
ووفق حبيب، فإن الرهان الحقيقي يجب أن يكون على إرساء برامج وطنية، تواكب التحولات المعاصرة، وتمنح الآباء والأمهات الأدوات النفسية والاجتماعية لفهم الأبناء، لا لمراقبتهم أو قمعهم. ويشدد: "نحن في زمن لم تعد فيه الأبوة والأمومة مجرد توفير مأكل ومسكن، بل مسؤولية عاطفية وتربوية معقدة. لذلك، فإن التعامل مع انحراف القاصرين ينبغي أن يكون تربوياً لا عقابياً، إصلاحياً لا انتقامياً، يراعي أولا وقبل كل شيء البنية النفسية الهشة للطفل، ويدفع نحو التأهيل لا التدمير".
"هروب إلى الأمام"
من جهته، يقلّل الحقوقي والمحامي مصطفى المانوزي من أهمية مشروع القانون الجديد، معتبراً تصريحات وزير العدل عبد اللطيف وهبي "بلاغيةً أكثر منها حجاجيةً"، قائلاً لـ "العربي الجديد"، إنها تفتقر إلى العمق التشريعي والدقة القانونية المطلوبة. ويشير المانوزي إلى أن "القاعدة المبدئية تقول بشخصية الجريمة وشخصية العقوبة؛ ولا يُعقل أن يتحمّل الأولياء أو النواب الشرعيون سوى المسؤولية المدنية؛ أما المسؤولية الجنائية والمساءلة الجنائية فإنها تخص مقترفيها بصفة شخصية".
ويوضح أن مبدأ المسؤولية المدنية للأولياء قائم بوضوح في التشريعات، لكن التلويح بإمكانية المساءلة الجنائية للآباء، أو تحميل الأطر التربوية تبعات أفعال لا يتحكمون فيها، يُعد في نظره "هروباً إلى الأمام" ومحاولة لتصدير الأزمة بدل معالجتها من جذورها. ويضيف: "في ظل غياب نص قانوني واضح ومفصل، أعتقد أن هذا المشروع لن يقر في صيغته الحالية. فهو يفتقد الشروط القانونية والسياسية الكفيلة بتأمين التوافق حوله داخل المجتمع، كما أنه لا يستند إلى رؤية شمولية تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والتربوية المرتبطة بجنوح القاصرين".
