ARTICLE AD BOX
منذ أن دخل خط سكة الحجاز الخدمة عام 1908، شكّلت واحدة من أبرز إنجازات البنية التحتية في زمن الدولة العثمانية، إذ امتدت من إسطنبول إلى المدينة المنورة مروراً بدمشق، مع تفرعات وصلت إلى حيفا وعكا ونابلس، بهدف تسهيل الحج والتجارة وربط ولايات السلطنة بعضها ببعض. واليوم، وبعد أكثر من قرن على توقفها، يعود الحديث عن إعادة تشغيل هذا الخط التاريخي بوصفه جزءاً من خطة تركية لإعادة إعمار سورية وتعزيز شبكات النقل الإقليمية، في سياق سياسي واقتصادي جديد يتسم بإعادة التموضع والانفتاح بين دول المنطقة.
المشروع، الذي يُعد جزءاً من رؤية أوسع لإحياء خطوط التجارة البرية بين آسيا وأوروبا، قد يغيّر من موازين النقل الإقليمي، ولا سيما مع دخول قوى كبرى مثل الصين على خط الاستثمار في البنية التحتية ضمن مبادرة "الحزام والطريق". وأما ما يخص لبنان، ورغم غيابه حالياً عن شبكة السكك الحديدية الفاعلة، فإن موقعه الجغرافي الاستراتيجي على الساحل الشرقي للمتوسط يمنحه فرصة نادرة لأن يكون جزءاً من هذه المنظومة، شرط إعادة تأهيل بنيته التحتية وربط مرافئه - خصوصاً بيروت وطرابلس - بالشبكات الإقليمية.
اقتصادياً، قد تفتح إعادة إحياء خط سكة الحجاز المجال أمام خفض كلفة الاستيراد، وتنويع سلاسل الإمداد، وتحفيز القطاعات اللوجستية، خاصة في بلد يعتمد بنسبة كبيرة على البضائع المستوردة. كما يمكن للمشروع أن يخلق فرص عمل جديدة، ويعزّز الاستثمارات في النقل العام والبنية التحتية، ويقلّل الضغط على الطرقات، في حال أُدمج ضمن خطة وطنية شاملة للنقل. إلا أن كل هذه الفوائد تبقى نظرية ما لم تتوافر الإرادة السياسية والحوكمة الرشيدة، بالإضافة إلى الشراكات مع القطاع الخاص والجهات المانحة.
وفي خضم التحوّلات الجيوسياسية التي يشهدها الإقليم، قد يمنح انخراط لبنان في مثل هذا المشروع موقعاً اقتصادياً أكثر فعالية، ويعيد إدراجه على خريطة التبادل التجاري في منطقة تتجه نحو تعزيز الترابط بدلاً من التقوقع.
يقول الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان، في حديث خاص مع "العربي الجديد"، إن إعادة تشغيل خط سكة الحجاز تمثّل فرصة اقتصادية إقليمية مهمة، إلا أن فائدتها على لبنان تبقى مشروطة. فطالما أن لبنان لا يملك شبكة سكك حديدية جاهزة، ولا حتى خطة عملية لإعادة تشغيلها، فإن تأثير هذا المشروع عليه سيكون محدوداً، وربما يمرّ من حوله من دون أن يكون جزءاً فعلياً منه.
ويضيف أن الاستفادة تبدأ بالاعتراف بهذه الفرصة أولاً، ثم عبر طرح مشاريع شراكة مع القطاع الخاص أو مع دول مانحة لإعادة تأهيل الخط الساحلي للقطارات وربط المرافئ اللبنانية بهذه الشبكة. ويشير إلى أنه، حتى في ظل الأزمة، يمكن للبنان أن يقدّم موقعه الجغرافي ممراً استراتيجياً، شرط توفّر إرادة سياسية ومناخ استثماري جاذب.
ويوضح أن لبنان قادر على أن يكون "محطة" لا مجرد "ممر"، بشرط تطوير بنيته التحتية وربط مرفأ بيروت، وربما طرابلس، بالشبكة الإقليمية، وتحويل محطاته إلى مراكز لوجستية. إلا أن ذلك يتطلب استثمارات كبيرة وتوافقاً سياسياً فعلياً حول موقع لبنان في هذه الخريطة الجديدة. ويؤكّد أن المشروع جزء من إعادة رسم طرق التجارة في المنطقة، ويدخل في سياق تنافس اقتصادي–جغرافي واضح.
ويشير إلى أن هذا المشروع يمكن أن يشكل بديلاً جزئياً عن قناة السويس لبعض البضائع القادمة من آسيا إلى أوروبا، ما يعكس تحولاً استراتيجياً في موازين النقل الإقليمي. وعند الحديث عن إمكانية تخفيض كلفة الاستيراد على لبنان، يوضح أبو سليمان أنه، نظرياً، إذا تم ربط لبنان فعلياً بهذه الشبكة، فمن الممكن أن تساهم في خفض كلفة الاستيراد، إذ إن القطارات تقلّص كلفة النقل وتُسرّع وصول السلع، ما قد ينعكس إيجاباً على الأسعار المحلية. لكن هذه الفوائد تبقى مرهونة بتوفّر بنية تحتية للسكك الحديدية، وهي غير موجودة حالياً.
ويتابع أن لبنان يحتاج إلى استثمارات ضخمة تتجاوز المليار دولار لإعادة تأهيل السكك والبنية التحتية المرتبطة بها. إلا أن الجدوى الاقتصادية قائمة، خصوصاً إذا تم ربط هذا الاستثمار بخطط النقل العام، والتجارة الإقليمية، وتخفيف الضغط عن الطرقات. ويشدّد على أن الاستثمار في سكك الحديد لم يعد ترفًا، بل أصبح ضرورة استراتيجية، بشرط أن يتم بشفافية، وضمن شراكات مع القطاع الخاص أو عبر تمويلات تنموية واضحة.
من جانبه، يفيد المحامي المتخصص في الرقابة القضائية على المصارف المركزية باسكال ضاهر، في حديث خاص مع "العربي الجديد"، أن ما يشهده الشرق الأوسط هو "حرب ممرات اقتصادية" تتقاطع فيها المصالح، وتسعى الدول إلى الاستفادة منها، باستثناء لبنان الذي كان يوماً صلة وصل وقبلة للشرق والغرب، وأصبح اليوم مهمّشاً.
ويؤكد ضرورة طرح هذا الموضوع، لأن خروج المركز الاقتصادي من لبنان يصعّب عملية استعادتها لاحقاً. ويضيف أن لبنان خسر العديد من المراكز الاقتصادية والمالية والمصرفية والخدماتية، ما يستدعي إعادة بناء هذه المراكز والسعي لاستقطاب المركز الاقتصادي الأهم للجمهورية اللبنانية ممراً اقتصادياً إلزامياً بين الشرق الغرب.
ويشير ضاهر إلى أن إعادة تشغيل خط سكة الحجاز يرتبط بواقع يفرض نفسه على لبنان، خاصة أن تركيا أعلنت شروعها في إعادة تأهيل هذا الخط الذي يصل إلى إسطنبول عبر سورية، كما أن الأردن بدأت أيضاً بالتحرك في هذا السياق. أما ربط لبنان بهذا الخط، فيراه أمراً واقعياً لا مفر منه، خصوصاً أنه ليس من المستحيل تحقيق الإمكانات التقنية، وهناك حاجة اقتصادية واضحة إلى ذلك، إلا أن هذا المشروع يواجه تحديات سياسية واقتصادية كبيرة.
ويوضح أن الدول المجاورة تعمل بجدية على تطوير شبكاتها، ومن المفترض أن يستفيد لبنان من هذه المشاريع، ولكن ذلك يتطلب شروطاً أساسية: إرادة سياسية مصحوبة بوعي لأهمية هذا المشروع واستقرار سياسي، وتمويل سواء داخلي أو خارجي، وإصلاحات هيكلية تشمل مسارين أساسيين: مكافحة الفساد، والعمل على إصلاح سكك الحديد على المستويين التقني والتوظيفي.
ويشدد ضاهر على أهمية إعداد الكوادر البشرية، والقيام بمسح شامل للبنى التحتية الحالية وتقييم حالة المسارات القديمة، ولا سيما الخط الذي كان يربط مرفأ بيروت بدمشق، والذي تم تدشينه عبر خط سكة الحجاز بأمر من السلطان عبد الحميد، وأُطلقت أول قاطرة عليه في 4 آب/أغسطس 1895، وهو تاريخ يتقاطع رمزياً مع تاريخ انفجار مرفأ بيروت عام 2020. لذا، فإن إعادة التأهيل ضرورية، أو على الأقل استبدال البنى التحتية المتآكلة، والتعاقد مع شركات لتوفير قطارات جديدة وحديثة.
ويضيف أن المشروع يجب أن يرتبط بالدول العربية والأوروبية، لما له من أهمية اقتصادية ملحّة، كما يجب ربط المطارات والمرافئ بسكة الحديد، وتدريب الطواقم على أنظمة السكك الحديثة. ويرى أن لبنان قد يحصل على تمويل خارجي، خصوصاً من الاتحاد الأوروبي، نظراً إلى ما يوفره هذا المشروع من تعزيز لأمن القارة الأوروبية، إذ قد تسعى الدول إلى تمويل مشاريع النقل المستدام، وقد يكون البنك الدولي والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD) أو وكالة التنمية الألمانية مهتمين بالمساهمة من خلال دراسات الجدوى ومشاريع البنية التحتية. كما أن الصين قد تعرض خدماتها في هذا المجال.
يُذكّر بأن النقل عبر القطارات عالمياً أرخص من النقل بالشاحنات، إذ يمكن أن تنخفض تكاليف النقل بنسبة تراوح بين 30% إلى 50%. كذلك، قد تهتم دول الخليج العربي بهذا المشروع نظراً إلى طابعه الإقليمي وربطه بسورية. ويشير ضاهر إلى أن الحكومة اللبنانية، خلال السنوات الماضية، ساهمت في ضرب الثقة الائتمانية، وهو ما يُعتبر من أهم شروط التمويل الدولي، إلى جانب غياب دولة القانون، ما لا يشجع الدول الأخرى على الاستثمار. ويؤكد ضرورة ضبط المعابر من حيث التفتيش للوصول إلى الأهداف المرجوة.
ويعتبر أن هذا المشروع قد يفتح أسواقاً جديدة، ويساعد في تصدير البضائع اللبنانية إلى الخارج، ما يعزز التجارة والصناعة، ويجعلها منافسة للبضائع الأجنبية. كما أنه يساهم في تفعيل المناطق الصناعية وإمكانية نقلها إلى مناطق قريبة من محطات القطار، ويقلل تكاليف النقل ويؤمن السرعة، ما يوفّر أيضاً فرص عمل للشباب اللبناني، ويحسّن التواصل بين العاصمة والمناطق البعيدة، ويحدّ من الهجرة الداخلية نحو المدن، إذ تسهم سكك الحديد في تحسين الوضع الاجتماعي في القرى.
ويؤكد أن على لبنان الاستفادة من أحدث الابتكارات في قطاع القطارات، لما لذلك من أثر في جذب الشركات والسياحة حال كانت القطارات معدة سلفاً لتكون سريعة وآمنة ومريحة، مشيرًا إلى أهمية الجانب التسويقي، إذ كان من المفترض أن يحتل لبنان المرتبة الأولى في هذا المجال، خاصة أن السكة موجودة، وتحتاج فقط إلى إعادة تأهيل.
ويضيف أن ما قد يمنع تشغيل هذه السكة هو البيروقراطية والفساد، وهي عوامل أُشير إليها في تقارير دولية، بالإضافة إلى عدم الاستقرار السياسي والأمني، وغياب خطة وطنية واضحة للنقل العام في لبنان. كما يرى أن النزاع الجغرافي والحدودي مع سورية لا يشكّل عاملاً سلبياً، بل قد يُساهم بتعزيز التكامل الإقليمي ويساهم في تحقيق الاستقرار، ويؤكد أن الممرات الاقتصادية تمر من حول لبنان بخلسة تامة، ونحن بعيدون عنها، لذا يجب على لبنان أن يبادر ويرفع صوته، لأنه بذلك قد يتمكن من استعادة موقعه مركزاً اقتصادياً محورياً في المنطقة.
