سودانيون عائدون من مصر... فرار من الغلاء رغم الحرب المستمرة

1 week ago 3
ARTICLE AD BOX

اختار آلاف السودانيين اللاجئين في مصر العودة إلى بلادهم في ظل الهدوء النسبي في عدد من المناطق، بعدما أنهكتهم مصاريف اللجوء من كلفة السكن والتعليم وغيرها، آملين المزيد من الاستقرار.

زادت أعداد اللاجئين السودانيين العائدين إلى بلادهم من مصر، أخيراً، في رحلات يومية تنطلق من وسط القاهرة ومحافظتي الجيزة غرب العاصمة وأسوان جنوبي البلاد إلى العاصمة السودانية الخرطوم. بعض الرحلات تتوقف عند مدينة أبو سمبل جنوبي مصر، ليرتاد البعض بواخر نيلية تقلّهم إلى ميناء دنقلة، كي يُنقَلوا إلى المدن المختلفة المحيطة بالعاصمة.

وبحسب المنظمة الدولية للهجرة، فإن نحو 50 ألف لاجئ سوداني غادروا مصر خلال شهر إبريل/نيسان 2025، عائدين إلى السودان، ما يرفع إجمالي عدد العائدين من مصر إلى أكثر من 165 ألف شخص. وتزامنت موجة العودة الأخيرة مع ما وصفته المنظمة بتحسّن "نسبي" في الأوضاع الأمنية في بعض المناطق السودانية، وعلى رأسها الخرطوم وولاية الجزيرة.

ورصدت "العربي الجديد" زيادة كبيرة في حركة الحافلات المغادرة من القاهرة إلى السودان، ولا سيما من مواقف المسافرين الرئيسية في العاصمة، حيث تصطف العائلات والأفراد ومعهم الأمتعة الثقيلة. ويؤكد عدد من السودانيين أن قرار العودة لم يكن سهلاً، ووصفه البعض بـ "المجازفة المحسوبة"، نظراً لاستمرار القتال في مناطق عديدة، إلا أن ضغوط تكاليف المعيشة في مصر دفعتهم إلى هذه الخطوة.

يقول عبد الرحمن، وهو ربّ أسرة سودانية كانت تقيم في حيّ مدينة نصر في القاهرة منذ منتصف عام 2023، بعد فراره من مدينة بحري، لـ "العربي الجديد"، إن "مصاريف الإيجار والمدارس أصبحت لا تُطاق، ولم نعد نستطيع الاستمرار هنا. نسمع أن الخرطوم أصبحت أكثر أماناً، وسنعود رغم أننا نعلم أن الحياة هناك ما زالت صعبة". يعمل عبد الرحمن مدرساً للغة الإنكليزية، لكنه لم يتمكن من إيجاد فرصة عمل مستقرة في مصر، واضطر إلى العمل في مطاعم ومهن متفرقة لتأمين الحد الأدنى من المعيشة لعائلته المكوّنة من زوجته وثلاثة أطفال.

حافلات مجانية من القاهرة والإسكندرية للعودة إلى السودان

أما حليمة، وهي أرملة من ولاية الجزيرة، فقد جاءت إلى القاهرة مع أولادها الثلاثة بعد اندلاع الحرب. تؤكد أنها ستعود إلى أم درمان لأنها لم تعد تشعر بالاستقرار في مصر. تضيف لـ "العربي الجديد": "هنا الحياة قاسية، وبدل الإيجار وحده يستنزف نصف ما أجنيه من تنظيف البيوت. في السودان لدي بيت صغير، ومهما كانت الحياة صعبة هناك، أشعر أنني في مكاني".

ويقول الشاب العشريني محمد عبد الباسط، الذي كان يدرس الإعلام في جامعة الخرطوم قبل أن تتوقف الدراسة، لـ "العربي الجديد"، إنه جرّب العمل في القاهرة، لكنه لم يحقق دخلاً كافياً، مشيراً إلى أنه قرر العودة إلى السودان بعد سماعه من أقارب له أن العاصمة بدأت تعود إلى الحياة تدريجياً. يضيف: "سأحاول إكمال دراستي، أو إيجاد فرصة عمل في بلدي بدلاً من الغربة".

في المقابل، لا يزال الكثير من السودانيين مترددين أو رافضين لفكرة العودة، في ظل استمرار المعارك في مناطق عدة، وخصوصاً في دارفور وكردفان وشرق البلاد، إضافة إلى المخاوف من غياب الخدمات الأساسية. ويقول أحمد الطيب، وهو موظف سابق في شركة اتصالات فرّ من الخرطوم إلى القاهرة مع زوجته وطفليه، لـ "العربي الجديد": "صحيح أن الحياة هنا مكلفة، لكنني لا أستطيع المغامرة بالعودة الآن. الوضع الأمني لا يزال هشاً، والحديث عن استقرار الخرطوم سابق لأوانه. العودة ستكون مغامرة غير محسوبة بالنسبة إلى أولادي". يضيف أنه يعتمد حالياً على مساعدات الجالية السودانية وبعض أقاربه، ويأمل أن تتحسن الأوضاع ليعود في وقت لاحق.

يفسّر السفير السوداني السابق لدى واشنطن، الخضر هارون، دوافع العودة المتزايدة للسودانيين من مصر، قائلاً إن "معظم الذين لجأوا إلى مصر ينتمون إلى الطبقتين الوسطى والفقيرة. كان لدى بعضهم مدخرات أعانتهم على العيش في البداية، لكنها سرعان ما نفدت مع استمرار الحرب، بينما اعتمد آخرون على تحويلات من أقاربهم في دول الخليج، لكنها لم تكن كافية لمواصلة الحياة هناك". يضيف في حديثه لـ "العربي الجديد": "المشكلة الأساسية تمثلت بتكاليف بدلات الإيجار وتعليم الأبناء في مصر، ما دفع كثيرين إلى تفضيل العودة إلى مدنهم في السودان، خصوصاً أن معظم المناطق الواقعة في الوسط النيلي، الممتدة من حدود مصر وحتى تخوم الجنوب، باتت تحت سيطرة الجيش السوداني".

ويشير إلى أن العودة ليست لأسباب اقتصادية فقط، بل أيضاً لحماية الممتلكات، قائلاً إن "وجود السكان في منازلهم يمنع تعرضها للسرقة أو التعدي، ويُسهم في استعادة الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمدارس، إذ إن استمرار خلو الأحياء من أهلها يشجع اللصوص، بينما يعزز الوجود السكاني من حضور الدولة". يتابع: "ما لا يعرفه كثيرون خارج السودان، أن ضرورات العيش اليومية هناك، من محاصيل زراعية وخضار ولحوم، متوفرة ومتاحة. وإن من يملك سكناً يستطيع أن يعيش بيسر نسبياً، خلافاً لما يُشاع في تقارير المنظمات الدولية".

وينتقد هارون ما وصفه بـ "التهويل الأممي"، قائلاً: "منظمات الأمم المتحدة ظلت تروّج فكرة وجود مجاعة في السودان، في حين أن الواقع على الأرض مختلف تماماً. تلك المزاعم كانت في كثير من الأحيان توطئة لدعوات تدخل دولي باسم الإنسانية". ويختم حديثه قائلاً: "رغم كل شيء، لا ننسى لمصر أنها فتحت أبوابها واستقبلت مئات الآلاف من أشقائها السودانيين في واحدة من أصعب المحن التي مرّ بها السودان في تاريخه الحديث".

من جهته، يرى الكاتب السوداني، محمد خليفة، أنّ "ما يجري جراء عودة اللاجئين السودانيين من مصر ومناطق اللجوء الأخرى، يبعث على التفاؤل بإمكانية انتهاء الحرب، بعدما أصبحت مناطق واسعة من السودان آمنة نسبياً، خصوصاً عقب سيطرة الجيش على العاصمة الخرطوم وطرد قوات الدعم السريع منها". يضيف لـ "العربي الجديد": "الخرطوم مركز الثقل السكاني في السودان، وكان عدد أهلها يقدّر ببضعة ملايين. بالتالي، إن استعادة الجيش للمدن الثلاث، أي الخرطوم والخرطوم بحري وأم درمان، شكّلت تحولاً كبيراً، لأن هذه المناطق كانت المصدر الرئيسي للنزوح الداخلي والخارجي".

ويوضح خليفة أن العودة لم تبدأ فقط بعد تحرير العاصمة، بل كانت قد بدأت تدريجياً عقب سيطرة الجيش على ولاية الجزيرة وأجزاء من سنار. يتابع: "ما نشهده الآن بداية حقيقية لاستعادة الحياة طبيعتها، لكن المطلوب من الجيش أن يواصل تقدمه ويمنع الدعم السريع من التمدد مجدداً، ولا سيما في القرى والمناطق المفتوحة". ويلفت إلى خطر آخر يهدد استقرار العائدين، ويتمثل بحرب المسيّرات التي قال إنها "تستهدف البنية التحتية مثل محطات الكهرباء والمرافق الحيوية، ما يجعل عودة المواطنين محفوفة بالصعوبات المعيشية. حتى إن عادوا إلى مناطقهم، قد لا يجدون الخدمات الأساسية".

وحول دور الحكومة في تنظيم العودة، يقول خليفة إن السلطات بدأت الاستعداد منذ اللحظة التي قرر فيها المواطنون العودة، موضحاً أن "مشروع العودة الطبيعية" أطلقته الحكومة بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني، ويتضمن توفير حافلات مجانية من القاهرة والإسكندرية إلى السودان. يضيف: "كل ما على المواطن فعله هو تسجيل اسمه وعدد أفراد أسرته، وتتكفل الدولة بنقله إلى الخرطوم أو إلى ولايته الأصلية".

ويشير إلى أن "عشرات الحافلات تنطلق يومياً من مصر، ويُستقبَل العائدون في المعابر والمناطق الحدودية، وتُقدم لهم خدمات أولية، ويُعمَل حالياً على تأهيل المستشفيات والمدارس والمرافق الخدماتية داخل المدن السودانية المتضررة، لتسهيل العودة التدريجية إلى الحياة".

ويشير العائدون إلى أن رحلة العودة نفسها ليست خالية من التحديات، خصوصاً في منطقة الحدود التي تعاني من ازدحام شديد ونقص في الخدمات، إضافة إلى بطء إجراءات العبور وتعرّض البعض لساعات طويلة من الانتظار. ورغم ذلك، يفضل كثيرون العودة إلى أرضهم، في ظل الأمل باستقرار نسبي وعودة الخدمات تدريجياً، مقارنةً بتدهور أوضاعهم الاقتصادية في مصر.

وتُعد مصر إحدى أكثر الدول استضافة للاجئين السودانيين منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في إبريل 2023، ودخل إليها أكثر من 500 ألف لاجئ خلال عام واحد. إلا أن موجة العودة الحالية تشير إلى تغير في المعادلات، ليس فقط على الأرض في السودان، بل أيضاً في قدرة دول الجوار على استيعاب اللاجئين في ظل أزمات اقتصادية ضاغطة. ويرى مراقبون أن عودة عشرات الآلاف من اللاجئين، رغم هشاشة الوضع الأمني في بعض المناطق، تعكس أيضاً أزمة أعمق تتعلق بانهيار شبكات الدعم الإنساني وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج طويل الأمد في دول اللجوء، ما يفتح الباب أمام أسئلة صعبة عن مستقبل ملايين السودانيين الفارين من الحرب.

Read Entire Article