ARTICLE AD BOX
من عمق التجربة التشكيلية المغربية، تلمع ريشة الفنانة فاطنة شعنان، التي اختارت أن تنحت ألوانها من صمت الطبيعة وعمق التراث، وأن تجعل من الجمال أداةً للتعبير وطريقاً إلى سبر أغوار الذات والآخر. لا ترسم شعنان لمجرد التشكيل، بل لحاجةٍ روحيةٍ في البوح، ولشغفٍ في تحويل تفاصيل الحياة اليومية، إلى مشاهد نابضةٍ بالحياة.
نسجت هذه الفنانة العصامية ابنة مدينة الدار البيضاء مسارها بهدوء وصدق، وتدرّبت على الإصغاء للداخل قبل أن تواجه العالم. استحضرت المرأة كفكرة، وكينونة، وصوت خفيّ يسكن تفاصيل اللوحة. اختارت التثقيف الذاتي سلّماً نحو الاحتراف. وفي أعمالها، تلتقي الواقعية بالتجريد، وينبض اللون تارة في حلم أسطوري، وتارة في واقع حقيقي.
الطبيعة ملهمة
لا تُخفي شعنان أن علاقتها بالفن بدأت منذ الطفولة. كانت الطبيعة ملهمتها الأولى. الحقول المترامية، الورود المزهرة، والنباتات المتنوعة، جميعها عناصر غذّت ذائقتها الجمالية ورسّخت في داخلها ميلاً فطرياً إلى الإبداع والرسم. تقول: "نشأت في أحضان الطبيعة، إذ كان والدي فلاحاً، وتربيت وسط عائلة محافظة تُولي أهمية كبرى للعادات والتقاليد. منذ طفولتي كنت شغوفة بالرسم والتلوين، ووجدت فيهما ملاذاً للتعبير عن ذاتي، خصوصاً أنني كنت خجولةً للغاية، وطفولتي لم تكن سهلةً، فقد كنت البنت الوحيدة بين ستة إخوة ذكور".
وتضيف: "كنت أخلق لنفسي عالماً خاصاً ألوذ إليه لملء الفراغ، فأصنع ألعابي بيدي مستخدمة الأوراق وقطع الخشب، والعلب البلاستيكية، والأقمشة البالية، والصوف. كنت أبتكر من لا شيء عوالم صغيرة تمنحني المتعة والسكينة. وأحياناً أخرى، كنت أزرع النباتات في مزرعة المنزل، وكانت أمّي تُردّد دائماً أن لديّ "يداً خضراء". كل هذه التفاصيل الصغيرة كانت تُغذّي في داخلي حب الجمال والابتكار، وأسهمت في تشكيل شخصيتي وميولي الفنية لاحقاً".
من الظل إلى الضوء
ورغم الميل الواضح لدى فاطنة شعنان نحو الإبداع اليدوي والبصري، فإنها سلكت مساراً أكاديمياً بعيداً عن الفن، كما توضح "حصلت على الإجازة في هندسة البرمجيات ونظم المعلومات، لكنني لم أشتغل يوماً في هذا المجال. اخترت الزواج وتكوين أسرة، غير أن شغفي بالفن لم يفارقني قطّ. كنت أرسم في الظل، بعيداً عن الأضواء، وأمتنع عن بيع لوحاتي، إذ كنت أعتبرها بمثابة أطفالي. حتى إن منزلي تحول إلى رواق فني، وكل من زارني كان يسألني السؤال ذاته: هل تعرضين أعمالك في محافل فنية؟ كنت أشعر بالحرج، ولا أجد جواباً واضحاً، لأنني لم أجد من يمد لي يد العون أو يشجعني على إخراج فني إلى العلن".
وتتابع: "لكن مع ظهور الإنترنت، أصبح كل شيء متاحاً، وصارت المعلومة في متناول الجميع. سهل عليّ العالم الأزرق خوض مغامرة الاكتشاف، فانطلقت في رحلة التثقيف الذاتي والبحث المستمر في أساليب وتقنيات الفن التشكيلي. تعرفت على فنانين من مجالات مختلفة، وشاركت لأول مرة في معرض جماعي بمدينة الدار البيضاء سنة 2004، حيث عرضت لوحتين من الطبيعة. ومن هناك، بدأت رحلتي الحقيقية، وتوالت المشاركات في معارض فردية وجماعية داخل المغرب وخارجه".
تؤمن فاطنة شعنان بأن الفنان ابن بيئته، يتأثر بها بقدر ما يؤثر فيها. وبحكم انتمائها إلى عائلة محافظة تولي أهمية بالغة للموروث الثقافي المغربي، تقول: "رأيت أمي تتقن فنون الطرز بأنواعه، ونسج الزرابي... وكانت هناك طقوس متوارثة تبدأ من جزّ الصوف، ثم غزله وسط الصلاة على النبي والزغاريد والتعويذات الشعبية وترتيب المنسج. كلها صور حيّة ترسّخت في ذاكرتي، وصارت لاحقاً منبعاً للوحاتي، إذ تحضر الحلي التقليدية، والمجوهرات، والحناء، والأقواس، والأسواق الشعبية، وألوان الطبيعة الزاهية". تولي عناية خاصة للموروث الثقافي المغربي. ويعود هذا التركيز، كما توضح، إلى إيمانها العميق بغنى هذا الموروث وتنوعه، إذ يشكّل بوتقة تنصهر فيها ثقافات متعددة: الأمازيغية، والعربية، والأندلسية، واليهودية، في تفاعل فريد يعكس الموقع الاستراتيجي للمغرب على مفترق الحضارات.
وتؤكد أن هذا الغنى الثقافي يستحق أن نعيد له بريقه وإشعاعه من جديد، خصوصاً في المحافل الفنية الدولية. لذلك، كلما شاركت في معرض خارج المغرب، تحرص على أن تُبرز في أعمالها البُعد التراثي والرمزي لبلدها، بما يليق بتاريخه وعمقه الحضاري. في عدد من لوحاتها، يشعر المتلقي أنه مسافر عبر الزمن إلى مدن مغربية قديمة، يصغي لأهازيجها الشعبية، ويتنقل بين دروبها المزخرفة، قبل أن يجد نفسه في لحظة من الزمن المعاصر، ترصد فيها الفنانة ملامح المرأة الأفريقية أو الفلسطينية أو المغربية بتجلياتها المختلفة.
حضور مهم للمرأة
تنتمي فاطنة شعنان إلى فنانات التجريب والبحث المستمر، إذ لم تتوقف طيلة مسارها الفني عن استكشاف تقنيات وأساليب متعددة، متأرجحة بين مدارس فنية متنوعة، من الواقعية إلى السريالية فالتجريدية. وقد اشتغلت على أعمال عديدة باستخدام الصباغة الزيتية، خاصة في البورتريهات والطبيعة الصامتة، لأنها تمنحها مساحة أوسع للتأمل والعمل بهدوء وتركيز بحسب تعبيرها. وفي لوحاتها التجريدية، تميل أحياناً إلى الصباغة المائية أو المزدوجة، بما يتيحه هذا النوع من خفة ومرونة في التعبير البصري.
تحتل تيمتا المرأة والطبيعة موقعاً مركزياً في أعمالها، وهو ما تعزوه شعنان إلى ارتباطها العميق بالأرض، ووعيها المبكر بطبيعة المجتمع الذكوري الذي نشأت فيه، حيث يُفضَّل فيه الرجل على المرأة، وتُوضع الأخيرة دوماً في موقع التبعية. تقول: "كنت ألاحظ هذا التمييز منذ طفولتي، وعبّرت عن رفضي له بطرق مختلفة، وكان فني أحد أهم منافذي للتعبير".
ولهذا السبب، حرصت في تجربتها التشكيلية على إبراز صورة المرأة، وتمكينها بصرياً، ومنحها حضوراً مشعّاً داخل لوحاتها، بوصفه نوعاً من المقاومة الرمزية وإعادة الاعتبار. لا تتقيّد شعنان بطقوس معينة أثناء الرسم، إذ تقول: "يمكنني أن أرسم في محترفي أو في أي مكان، لكنني كون أكثر إبداعاً في اللحظات العصيبة. أرسم لأتنفس، لأدع روحي تسافر بعيداً، وأجد في الصباغة ملاذاً داخلياً. أحب أن أشتغل على أنغام الموسيقى، فهي ترافقني بشكل يمنحني الإلهام".
سيمفونية الكونفينادا
وتضيف: "خلال جائحة كوفيد-19، وبينما كنت عالقة في أحد الفنادق بإسبانيا، لجأت إلى الرسم وسيلة لتجاوز تلك المحنة. كانت الموسيقى الإسبانية ترافقني يومياً، ومعها أنجزت 36 لوحة حول الثقافة الإسبانية، شكّلت فيما بعد معرضي الفردي الذي حمل عنوان (سيمفونية الكونفينادا)".
لم تغب القضايا الإنسانية الكبرى عن التجربة التشكيلية لفاطنة شعنان، فقد خصّت القضية الفلسطينية بحيز مهم ضمن أعمالها، من خلال لوحات تعبّر عن التضامن والمقاومة، من بينها لوحة تُجسد الناشطة والأسيرة المحررة عهد التميمي. وتقول في هذا السياق: "القضية الفلسطينية هي قضيتنا جميعاً، وأعبّر عن تضامني المطلق مع إخوتنا في غزة، وأندد بالجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الإنسانية جمعاء".
إلى جانب تجربتها الفنية، تولي فاطنة شعنان أهمية كبيرة للعمل الجمعوي والمبادرات الثقافية، انطلاقاً من إيمانها العميق بدور الفنان في محيطه الاجتماعي. تشغل منصب الرئيسة الشرفية لجمعية "سيزام"، كما تُعد عضواً فاعلاً في عدد من الجمعيات الخيرية. شاركت في العديد من الورشات الفنية الموجهة للأطفال، داخل الخيْريات والمدارس العمومية، سواء في المغرب أو في عدد من دول أفريقيا جنوب الصحراء، مثل ساحل العاج، السينغال، وغينيا. وتسعى شعنان من خلال هذه الأنشطة والورشات والمعارض الجماعية إلى تمكين لأطفال من أدوات التعبير الفني، وفتح آفاق إبداعية جديدة أمامهم، إيماناً منها بأن الفن يمكن أن يكون أداة للتربية، والتحرر، والتغيير.
