ARTICLE AD BOX
يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والإنسان الأخير": "في نهاية التاريخ ليس ثمة منافسون أيديولوجيون للديمقراطية الليبرالية، وقد رفض الناس في الماضي هذه الديمقراطية الليبرالية لاعتقادهم أن الملكية والأرستقراطية والثيوقراطية أو الحكومة الدينية والشمولية الشيوعية وسائر الأيديولوجيات التي اتفق أن آمنوا بها أفضل منها. أما الآن فيبدو أن ثمة اتفاقًا عامًّا –إلا في العالم الإسلامي– على قبول مزاعم الديمقراطية الليبرالية بأنها أكثر صور الحكم عقلانية، وهي صورة الدولة التي تحقق إلى أقصى حد ممكن إشباع كل من الرغبة العقلانية والاعتراف العقلاني".
عندما أعلن فوكوياما نظريته عن نهاية التاريخ بعد سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، بدا وكأنه يقدم إعلانًا نهائيًّا لانتصار الديمقراطية الليبرالية باعتبارها قمة التطور السياسي والاجتماعي، لكنه لم يكن الأول الذي حاول إحكام قبضة الزمن وتصنيف التاريخ رحلةً لها وجهة واحدة، على سبيل المثال: تناول كارل ماركس التاريخ مساراً له غاية "الحتمية التاريخية"، فهو يرى أن الشيوعية هي نهاية التاريخ حيث تنتفي الدولة والطبقية والملكية الخاصة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل نحن حقاً في نهاية المطاف؟ أم أن الفكرة نفسها خديعة تستهوي الفكر، لكنها تتناقض مع واقع الإنسانية؟
فكرة نهاية التاريخ تفترض أن التاريخ هو خط مستقيم ينتهي عند نقطة ذروة، ولكن هذا التصور في اعتقادي يتناقض مع الفلسفة الهيغلية، فهيغل يرى أن التاريخ حركة جدلية "ديالكتيك الهيغلي"، حيث تصطدم الأطروحات بنقائضها لينتج عنهما تركيب جديد، هذا التركيب ليس نهاية؛ إنه بداية جديدة لمسار آخر. الهيغلية نفسها تناقض فكرة الاستقرار النهائي، حيث يقول هيغل: "الحقيقة هي الكل"، ما يعني أن الكل لا يكتمل إلا في مسار دائم من التطور.
لنتأمل صعود التكنولوجيا في العصر الحالي، ونطرح الإشكاليات التالية: هل يمكن للتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي والروبوتات أن تكون نهاية التاريخ الاقتصادي كما نعرفه؟ أم أنها بداية لتحولات جذرية قد تقود إلى انهيار النظام الرأسمالي القائم؟ فالروبوتات قد توفر حلًّا لبعض التحديات، ولكنها ستخلق معضلات جديدة مثل البطالة، والتفاوت الاجتماعي، وأيضًا فقدان الإنسانية في العمل، هذا يُظهر أن كل تقدم يفتح مجالًا لصراعات جديدة، وليس إغلاقًا للتطور التاريخي.
علاوة على ذلك، أزمات العصر الحديث تفضح استحالة فكرة نهاية التاريخ، فالحروب المستمرة في مناطق متعددة من العالم "الحرب الروسية الأوكرانية" و"الحرب في غزة"، وكذلك تفاقم الفقر في دول الجنوب، وموجات الهجرة التي تهز الأنظمة السياسية للدول المتقدمة تُظهر أن التاريخ ليس مستقيمًا ولا نهائيًّا. كما أن صعود الحركات الشعبوية وصراع القيم بين المحافظين والتقدميين في الولايات المتحدة الأميركية يكشف تناقضات الديمقراطية الليبرالية نفسها. إذًا، هل يمكن اعتبار هذه الأزمات جزءًا من "نهاية التاريخ"، أم أنها دليل على أن الصراعات الإنسانية ستظل تكرر ذاتها في أشكال مختلفة؟
الاستعجال في إعلان نهاية التاريخ يكشف خوفًا عميقًا من المجهول، يرى الفيلسوف الفرنسي جان بودريار أن المجتمع الحديث مهووس بالسرعة والإنتاجية، لدرجة أنه يحاول تقليص المستقبل إلى حاضر مستمر، ويقول في هذا الصدد: "ما نراه الآن ليس نهاية التاريخ، بل نهايات الزمن"، وهو بذلك يشير إلى أن الإنسان المعاصر فقد القدرة على تصور مسار مختلف للتاريخ. على سبيل المثال: تجربة الاتحاد الأوروبي تقدم مثالًا عمليًّا على ذلك، فالاتحاد الذي تأسس مشروعَ سلامٍ واقتصاد مشترك، أصبح الآن عرضة للتصدعات الداخلية بسبب صعود القومية والشعبوية، هذه التحديات ليست نهاية لفكرة الاتحاد، بل هي اختبار لإعادة صياغة أهدافه ومساراته، فإذا كان التاريخ قد توقف، فما كنا نرى هذه الديناميات المستمرة كفكرة إنشاء جيش أوروبي مشترك بديل عن حلف ناتو الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
بالإضافة إلى ذلك، افتراض أن جميع المجتمعات تسير على الخط التطوري نفسه يعكس نزعة مركزية أوروبية تعود إلى القرن التاسع عشر، ففي الواقع التجارب الإنسانية متعددة، ولا يمكن اختزالها في نموذج واحد، لأن التاريخ شبكة من المسارات المتقاطعة، بمعنى آخر إن كل ثقافة ومجتمع يمكن أن يخلق طريقه الخاص من دون أن يكون مقلدًا لنماذج أخرى.
التاريخ ليس كتابًا يُغلق بعد الصفحة الأخيرة، بل سلسلة لا نهائية من الفصول المفتوحة، كل مرة نعتقد أننا وصلنا إلى النهاية نكتشف أسئلة جديدة
لنتأمل صعود الصين بوصفها نموذجاً غير ليبرالي، لكنها تحقق تقدمًا اقتصاديًّا وحضاريًّا غير مسبوق، فبرغم ما يثيره هذا النموذج من جدل في مراكز التفكير الغربية، يُظهر أن التاريخ لا يتوقف عند الغرب ولا عند نموذج الديمقراطية الليبرالية. وبالمثل، يمكن للدول العربية والأفريقية التي تستلهم من تراثها وثقافاتها أن تقدم مساراتها الخاصة نحو التقدم من دون الالتزام بنماذج مستوردة تتناقض مع هوياتها الثقافية والحضارية.
وهكذا، فالتاريخ ليس كتابًا يُغلق بعد الصفحة الأخيرة، بل سلسلة لا نهائية من الفصول المفتوحة، كل مرة نعتقد أننا وصلنا إلى النهاية، نكتشف أن هناك أسئلة جديدة تحتاج إلى إجابات، وفكرة نهاية التاريخ ليست حقيقة، بل محاولة لفهم حاضرنا في سياق نهائي، لكنها تقيد خيالنا، وتمنعنا من رؤية الإمكانات الكامنة في المستقبل. في الأخير، التاريخ ليس له نهاية؛ إنه مرآة نواجه فيها صراعاتنا وتناقضاتنا، ونجد فيها فرصًا للتجدد. وأعظم هبة قدمها التاريخ للإنسانية هي القدرة على الحلم بعالم مختلف، عالم يتجاوز الحتميات التي نعتقد أن لا مفر منها.