ARTICLE AD BOX
لو كان لجملة واحدة أن تختصر سورية أثناء حكم الأسد، فستكون: دولة المخابرات. وينطبق هذا الاسم على عهد الأسدين الأب والابن، فقد بنى حافظ الأسد نظامه على شكل مؤسسة أمنية كبيرة، تمتد أذرعها كالاخطبوط لتصل إلى أقصى نقطة في سورية، وتدس بذراعها في كل مناحي الحياة. تخيف الناس، تراقبهم، تبتزهم، تدير المؤسسات من الخلف، وتتحكم بمصائر البشر والاقتصاد وكل كل شيء.
أصبحت أجهزة المخابرات ركيزة أساسية في بناء نظام سلطوي مغلق منذ اللحظة التي استولى فيها حزب البعث على السلطة في سورية عام 1963، واعتمد الحزب من خلال هذه الأجهزة على القمع والترهيب لضمان بقائه وترسيخ حكمه. ومع وصول حافظ الأسد إلى سدّة الحكم في 1970، تحوّلت هذه الأجهزة إلى ما يشبه الدولة داخل الدولة.
أخذت أجهزة المخابرات السورية تراقب كل شيء وتخترق كل شيء، من مؤسسات الدولة إلى تفاصيل الحياة اليومية للمواطنين السوريين ومن في حكمهم؛ بحيث لم يكن هناك فصل واضح بين الدولة والنظام، ولا بين الأمن والسياسة، ولا حتى بين الأمن والاقتصاد وعمليات مؤسّسات المجتمع المدني، ليتشكّل لدينا وعي جمعي قائم على فكرة مفادها بأن ولاء الفرد لنظام الأسد مفتاح نجاته، وأصبحت أدوات الأمن وسيلةً لضمان هذا الولاء وحفظ أمن آل الأسد على مدار 54 عاماً.
لعبت أجهزة المخابرات دوراً محورياً في عسكرة الثورة وجرّها إلى مستنقع الدم والسلاح والعمل العسكري المشبوه
ومع انتقال الحكم إلى بشّار الأسد مطلع الألفية بترتيبات أمنية واستخبارية مساندة، لم تكن هناك نيّة لانفتاح جوهري ولإطلاق الحرّيات الأساسية للشعب السوري أو حتى رغبة لإحداث تغييرات، ولو شكلية، على نموذج القيادة الأمنية في البلاد؛ وبقي الشكل والمضمون الأمني راسخاً رغم انفتاح "الرئيس الشاب" حينها لتلبية متطلبات الانفتاح العالمي والتطور ومواكبته، بل ازداد شراسة وغطرسة، لا سيما بين 2004 و2008، حيث كانت هناك هجمات أمنية تحسّباً لتفاقم أزمة الأكراد المنتشرين بين القامشلي وحلب ودمشق.
وبعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، لعبت أجهزة المخابرات دوراً محورياً في عسكرة الثورة وجرّها إلى مستنقع الدم والسلاح والعمل العسكري المشبوه، ليس فقط عبر القمع المفرط، بل أيضاً من خلال صناعة سيناريوهات داخلية مدروسة، أبرزها إطلاق سراح متشددين إسلاميين من السجون، لإيجاد بيئةٍ تُبرر الرواية الرسمية حول "الإرهاب" ولتحقيق استقطاب داخلي وخارجي يمنح النظام هامش مناورة سياسيّاً وأمنيّاً، ويمنحه الحقّ في تبرير رواية القمع التي أسّس لها بأجهزته الأمنية التي كانت رديفة لقوات الجيش، والتي تحكمت ببناء سردية غير واقعية منذ بداية الثورة.
لم تعد المخابرات تكتفي بجمع المعلومات أو التنصت، بل أصبحت طرفاً مباشراً في العمليات العسكرية عبر غرف عمليات استخبارية مشتركة مع مليشيات محلية وأجنبية، معظمها بدعم وتمويل إيراني وتنسيق روسي. ارتكبت هذه الأجهزة انتهاكاتٍ واسعة، شملت اعتقال ما يزيد على 215 ألف شخص، بينهم آلاف النساء والأطفال، وتوثيق مقتل نحو 2500 معتقل تحت التعذيب في سجون النظام، وفق تقارير موثقة.
سقوط القلعة الأمنية
ومع تسارع الأحداث الأمنية والعسكرية، بدأت فصائل المعارضة السورية المسلحة عملية ردع العدوان التي قادتها هيئة تحرير الشام وغرفة عمليات الفتح المبين، والتي كانت نتيجتها إطاحة نظام عائلة الأسد وقلعته الأمنية التي بناها على مدار 54 عاماً من القمع والإذلال، لتنهي عهداً من الاستبداد الأمني، ولتفضح ما كان نظام الأسد يعتبره حرزاً محرماً يمنع تسريب حروفه، تسربت فيها وثائق سرية خطيرة، وكُشف النقاب عن كمٍّ هائل من الانتهاكات. منذ ديسمبر/ كانون الأول 2024، ما فتئت تتكشف أوراق القمع وخبايا المخابرات السورية التي توصف بواحدة من أعتى الأجهزة الأمنية في العالم، وانهارت معها البنية التنظيمية للأجهزة القديمة، وتبخّر عناصرها في الهواء، وتسرّب ضباطها إلى جهات مختلفة، فيما ظهرت خبايا أدوار الأفرع الأمنية والمعتقلات الأشد ظلاماً ووحشية في العالم، وتناثرت الوثائق التي كانت لما قبل ساعات أسراراً دفينة غامضة، يمكن أن يقتل من يخطر له المساس بواحدة منها. وانهارت هذه الأسطورة كما انهار كل شيء مرتبط بدولة الأسد الأمنية.
بدأت تتسرّب آلاف الوثائق السرية من أرشيف المخابرات السورية كاشفةً عن شبكة معقدة من القمع والسيطرة التي صاغت الحياة السياسية والاجتماعية في سورية عقوداً. هذه الوثائق، التي يعود بعضها إلى عهد حافظ الأسد، وبعضها لما قبل ذلك، بداية استلام حزب البعث للسلطة، بل ويرتبط بعضها بتأسيس نواة هذا الجهاز القمعي في زمن الوحدة مع مصر بين عامي 1958 و1961، وتسرب هذه الوثائق يمثل فرصة نادرة لفهم الآلية العميقة التي بُني عليها النظام الأمني السوري، والذي لم يكن مجرّد أداة ضبط داخلي، بل مؤسّسة استراتيجية تعيد إنتاج السلطة، وتؤمن تحالفاتها وعملياتها القذرة، وتتحكم في كل مفاصل الدولة والمجتمع. يكشف واقع هذه الوثائق عن بنية أمنية مركزية قوامها الولاء الشخصي، والتنافس الداخلي بين الفروع والأجهزة، والمراقبة الدقيقة للمعارضة وحتى للحلفاء، وللمسؤولين المدنيين والعسكريين في مؤسّسات الدولة.
العلاقة بين المخابرات والسلطة
تفيد الوثائق أيضاً بأن الأجهزة الأمنية كانت تراقب بعضها بعضاً، ما يعكس حالة انعدام الثقة داخل النظام نفسه، كما أن الأجهزة الأمنية لم تكن فقط أداة بيد النظام، بل كانت شريكة في السلطة، وتمثل جهازاً رقابياً على كل الوزارات والهيئات الحكومية وغير الحكومية؛ وحتى المنظمّات الدولية التي كانت تدخل سورية بالتنسيق مع جهاز المخابرات للقيام بأعمال تدقيق أو تفتيش أو ما شابه. بحكم عمل هذه الأجهزة، يتداخل الأمن مع الاقتصاد والسياسة والتعليم والدين وجميع مناحي الحياة. اقتصادياً، تبيّن وثائق أن ضباطاً كباراً في المخابرات كانوا يسيطرون على شركات تجارية وعقود حكومية، خصوصاً في فترة إعادة الإعمار بعد 2018، وعلاقاتهم مع مستثمرين يطلب منهم تنفيذ عمليات توزيع للمساعدات الواردة من الأمم المتحدة . بالإضافة إلى ذلك، جرى الاعتماد على شركات أمنية خاصة تكون رديفة لقطاع المخابرات السورية بتنسيق أمني معها، كما الحال مع شركة "القلعة" الأمنية الخاصة التي يمتلكها علي طاهر، أحد أهم الواجهات الاقتصادية لنظام الأسد حينها.
أبرز ما كشفته الوثائق المسربة بعد سقوط نظام الأسد هو العلاقة المعقدة التي ربطت الأجهزة الأمنية السورية بالتيارات الإسلامية على اختلاف توجهاتها
ظهرت صورة موجهة من الفرع 279، إدارة المخابرات العامة، إلى الفرع 300 مخابرات عامة، لطلب معلومات حول بحث أكاديمي يكشف خفايا تحويل المساعدات الاقتصادية إلى منظمة "نور للإغاثة والتنمية" تقدر بـ1.8 مليون دولار، وهذا الخطاب يكشف علاقة المخابرات السورية بالنظام الاقتصادي في سورية، وبالمنظمات غير الحكومية وعملها في البلاد بما يضمن مركزية الوصول المالي في البلاد ومعاقبة "من يتجرؤون على الاقتصاد الوطني" لمعالجة ملفات أمنية عالقة لديهم.
بالإضافة إلى ذلك، عملت المخابرات على توزيع الولاءات الطائفية والعشائرية بحيث جرى اختيار قادة الأفرع بعناية لضمان التوازنات الطائفية، مع أفضلية واضحة للعلويين، خاصة في المناصب الحساسة؛ مع الحفاظ على وجود سني في القطاع الأمني، لا سيما وجود رستم غزالة ومحمد مفلح ونوفل الحسين وعبد الفتاح قدسية الذي ترأس المخابرات الجوية عام 2009.
لم يخلق نظام الأسد الثقة بين هذه الأفرع الأمنية، ما جعل هناك حالة من الرقابة المتبادلة بينها، وكانت المخابرات الجوية والمخابرات العسكرية الأعلى بينها من ناحية الأوامر والمهام. تؤكد الوثائق وجود تعليمات دورية بمتابعة الضباط الأمنيين بعضهم بعضاً، ما يعكس حالة انعدام الثقة داخل النظام نفسه كما الحال في متابعة مخابرات فرع فلسطين المسؤولين عن مفرزة الأمن السياسي في منطقة الميسات في العاصمة دمشق، بعد وجود معلومات عن تسهيلات واستثناءات أمنية لبعض المنظمات غير الحكومية العاملة في المنطقة، وتسهيل عملها. كما تكشف الوثائق عن دور الأجهزة الأمنية في تعيين المسؤولين المدنيين، ما يدل على تغلغلها في مختلف مفاصل الدولة.
الملفّات الداخلية الحساسة
كان أبرز ما كشفته الوثائق المسرّبة بعد سقوط نظام الأسد هو العلاقة المعقدة التي ربطت الأجهزة الأمنية السورية بالتيارات الإسلامية على اختلاف توجهاتها، خاصة بعد صعود الإسلام السياسي في المنطقة منذ ثمانينيات القرن الماضي، ومروراً بثورات الربيع العربي، وصولاً إلى الحرب الأهلية السورية. لم تكن هذه العلاقة خطية أو أحادية الطابع، بل تنوّعت بين القمع المباشر والاحتواء المرحلي والاختراق المنهجي، وذلك وفقاً للظروف السياسية والأمنية. بالإضافة إلى ملف "مكافحة الإرهاب" الذي اتخذه شماعة في تبرير القبضة الأمنية النارية على السوريين أمام المجتمع الدولي، وملف تجارة المخدرات والكبتاغون الذي تورط فيه قادة أمنيون وقادة في الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد وفق تسريبات بعد ديسمبر 2024. لكن يبقى ملف الإسلاميين هو الأعقد نظراً إلى ارتباطاته الإقليمية.
تُظهر وثائق تعود إلى بداية الثمانينيات أن مخابرات الأسد شنّت حملة قمعية دموية ضد جماعة الإخوان المسلمين عقب أحداث حماة 1982، التي قُتل فيها ما بين عشرة آلاف وثلاثين ألف مدني حسب التقديرات. وتشير وثائق رُصدت في شعبة المخابرات العسكرية تعود إلى عام 1983 إلى إنشاء ملف دائم لكل من يُشتبه بميوله الإسلامية أو علاقته بأي نشاط ديني غير مرخص، مع أوامر صارمة بعدم منح هؤلاء أية وظائف حكومية، وحرمانهم من جوازات السفر، ومراقبة عائلاتهم. وقد خُصص فرع فلسطين (235) والفرع الداخلي في المخابرات العامة (الفرع 285) لرصد وتتبع عناصر الجماعة في الداخل والخارج. وتظهر وثائق جرى تسريبها في يناير/ كانون الثاني 2025 إلى تفاصيل عمليات تعقب في تركيا والأردن لمعارضين مرتبطين بالإخوان، وتنسيق أمني مع فصائل فلسطينية ولبنانية مقربة من النظام في تصفيتهم أو ترهيبهم.
وبخلاف جماعة الإخوان المسلمين، تعاملت المخابرات السورية مع التيارات السلفية الجهادية بطريقة مزدوجة: من جهةٍ، جرى قمعها بشراسة، خاصة بعد تفجيرات دمشق في 2008 و2011، ومن جهة أخرى، جرى اختراقها والتلاعب بها في بعض المراحل. وتُظهر وثائق أمنية مسرّبة من فرع الأمن السياسي في درعا عام 2010 وجود قاعدة بيانات مفصلة عن المنتمين للسلفية الجهادية، بما في ذلك أسماؤهم، نشاطاتهم، وأماكن وجودهم، مع توصية باستخدام بعضهم في سيناريوهات التخويف المجتمعي من التطرف.
كما كشفت وثيقة أخرى مؤرّخة في مايو/ أيار 2012، صادرة عن المخابرات الجوية فرع التحقيق في مطار المزّة، عن خطة لإطلاق سراح عدد من المعتقلين السلفيين من سجن صيدنايا وتوجيههم نحو مناطق محدّدة في شمال سورية والغوطة الشرقية ، بهدف خلق انقسام بين الحراك الثوري المدني والتيارات الجهادية، وبالتالي تشويه صورة الثورة. وقد ورد في الوثيقة تعبير صريح عن أن هذا الإجراء سيكون أداة لضرب المجتمع الثائر ببعضه. وبالفعل، أطلق سراح مجموعة جهاديين تسلموا فيما بعد قيادة لواء جيش الإسلام في الغوطة الشرقية لدمشق.
تشير وثائق وتحقيقات ميدانية التي نُشرت بعد سقوط النظام إلى احتمال تورّط المخابرات السورية في تسهيل صعود بعض التنظيمات الجهادية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ضمن استراتيجية خبيثة هدفها تشويه الثورة وتقديم النظام "خياراً علمانياً مستقراً" أمام المجتمع الدولي.
من أبرز ما ورد في هذا السياق، وثيقة مؤرّخة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 من فرع المخابرات العامة توصي بعدم التعرض لتحركات عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في الرقّة ودير الزور، بدعوى "أنهم يعيدون ضبط الانفلات الأمني بفعالية"؛ ومحاضر اجتماعات سرّية بين ضباط مخابرات سوريين ووسطاء لبنانيين أكدت "ضرورة الإبقاء على وجود مجموعات متطرفة في محيط حمص وإدلب لضمان استمرار الدعم الروسي والإيراني للنظام"؛ وتعليمات داخلية في فرع 291 (المخابرات العسكرية) تطلب عدم استهداف مستودعات أسلحة استولى عليها "داعش" في تدمر عام 2015، لأنها ستُستخدم لاحقًا في المعارك مع المعارضة المسلحة.
ولتنسيق هذا العمل الاستخباري، نفذت مخابرات الأسد عدة تفجيرات واغتيالات كشفت عنها النقاب وثائق كانت سرية للغاية حتى 8 ديسمبر 2024، أعنفها كان تفجير القزاز في دمشق (مايو/ أيار 2012)، إذ كشفت وثيقة صادرة عن جهاز المخابرات الخارجية، بتاريخ 8 مايو 2012، أمراً بتنفيذ تفجير في منطقة القزاز بدمشق. الهدف من التفجير كان إقناع الرأي العام المحلي والدولي بوجود عصابات إرهابية مسلحة. تضمنت التعليمات تنفيذ تفجير انتحاري بسيارة محشوة بكميات كبيرة من المواد المتفجرة في وقت الذروة، مع تأجيل وصول وسائل الإعلام إلى مكان الحادث لمنع اكتشاف أن التفجير كان مدبراً. وثيقة أخرى كشفت عن إعدام جماعي لعسكريين سوريين من الطائفة العلوية تعود إلى 1 مارس/ آذار 2015، تظهر أمراً بإعدام 2459 عسكرياً من أبناء الطائفة العلوية بسبب عدم امتثالهم للأوامر العسكرية. تضمنت التعليمات إخبار ذويهم أنهم استشهدوا في ساحات المعركة، بالإضافة إلى احتجاز 1796 عسكرياً آخرين مع إعطاء ذويهم معلومات مغلوطة تفيد بأنهم مختطفون. بالإضافة إلى اغتيال سارية حسون (سبتمبر/ أيلول 2011)، نجل مفتي الجمهورية أحمد بدر الدين حسّون، الذي كان قد دعم النظام في خطابه الديني. أظهرت الوثيقة المسربة أن قسم المهام الخاصة في فرع المخابرات الجوية 291 كلف ضابطاً برتبة عقيد ركن يدعى سهيل الحسن باغتيال نجل حسون في 29 سبتمبر 2011 بواسطة سيارة مدنية على نفقة الدولة.
تكشف الوثائق المسرّبة عن منظومة رقابة قمعية متعدّدة المستويات اعتمدت على عدة أدوات، تبدأ من شبكات المخبرين (العواينية) المعقدة للغاية حيث جُنِّد عشرات الآلاف من المدنيين والعسكريين مخبرين، بعضهم مقابل المال، وآخرون تحت الضغط أو الابتزاز، وهناك المتطوعون الذين يسعون إلى مصالح على المدى البعيد وتسلم مناصب في مراحل متقدمة من علاقتهم بمخابرات الأسد. يقدّم هؤلاء المخبرون تقارير أمنية، حيث تُظهر الوثائق نمطاً يوميّاً من التقارير المرفوعة إلى قيادات الأفرع، تتضمّن تحرّكات مواطنين معينين، الطلاب، المثقفين، السياسيين والجامعيين وحتى الأحاديث العائلية. تؤدّي هذه التقارير ( المبنية على معلومات ووقائع أو تقارير كَيدية) الاعتقال والإخفاء القسري، إذ كانت التعليمات الأمنية تُجيز الاعتقال من دون إذن قضائي، مع أوامر صريحة بمنع معرفة مكان المعتقل أو التهم الموجهة إليه، حتى إنه قد يحاكم بتهم لم يفعلها أو يعترف بها لمجرّد أنه لم يعد يحتمل التعذيب في الأفرع الأمنية في أثناء التحقيق.
النشاط الخارجي والعمل الإقليمي
تناولت بعض الوثائق المسرّبة ملفات الأمن الخارجي، وكيف استخدمت مخابرات الأسد أذرعها في المنطقة، لا سيما في لبنان والأردن والعراق، أدوات للترهيب والضغط في ملفات أمنية حساسة وتنفيذ اغتيالات كان أعنفها اغتيال كمال جنبلاط ورفيق الحريري وبشير الجميل ومحمد شطح وغيرهم. استخدمت مخابرات نظام الأسد ملف القضية الفلسطينية والعلاقات العربية الإسرائيلية للضغط على الأردن، وجعل الأردن متعاوناً معها في تعقب بعض المعارضين السوريين من خلال السفارة السورية في عمّان، وجعل دخول السوريين إلى الأردن، نقطة عبور، مرتبطاً بتصريح أمني من جهاز الأمن العام الأردني، بما يضمن تعقباً واضحاً للمطلوبين للأمن السوري ومراقبة تحرّكاتهم. بالإضافة إلى ذلك، ملفّ التهريب إلى دول الخليج الذي يشمل ترهيباً بتخفيف حدّة التعامل مع شحنات تهريب المخدرات والأسلحة من دول الخليج العربي وإليها. ومن ضمن عمليات التجسس التي كانت المخابرات السورية تنفذها في الأردن ولبنان وتركيا: مراقبة تنقلات المعارضين واجتماعاتهم، لا سيما اجتماعات المجالس العسكرية لفصائل المعارضة السورية المسلحة، ووضع خطط لتشويه سمعتهم أو تصفيتهم أو تقليص تحركاتهم. وبالنتيجة، فقد استخدم نظام الأسد جهاز المخابرات السورية أداة تفاوض دولية، إذ كشفت وثائق أن النظام قدّم عروضاً سرّية لبعض الدول العربية والغربية لتبادل معلومات عن "الجماعات الجهادية" مقابل تخفيف الضغوط السياسية. نتائج هذا العمل الاستخباري ظاهرة، لا سيما بعد أن اعتقلت الإمارات عصام البويضاني الشهير بأبي همام البويضاني، قائد تنظيم جيش الإسلام سابقاً، وقيام فرنسا بتنفيذ محاكمات علنية لمجدي نعمة، المقاتل السابق في جيش الإسلام والمتحدث باسمه، الموقوف منذ 2020 بتهمة التواطؤ في ارتكاب جرائم حرب والانتماء إلى مجموعة إجرامية. وقد يواجه عقوبة السجن 20 عاماً.
المآلات والأسئلة المستقبلية
يفتح الكشف عن هذه الوثائق الباب أمام عدة مسارات، أهمّها المحاسبة والمساءلة، لا سيما أن وثائق كثيرة تتضمّن توقيعات وأسماء ضباط متورّطين في جرائم ضد الإنسانية، ما يفتح المجال لتحريك دعاوى قضائية دولية ضد رؤساء أفرع أمنية، أبرزهم قصي ميهوب ولؤي العلي وأسامة زهر الدين وإبراهيم معلا وحسام لوقا وإبراهيم صافي. وتمكن أيضاً الاستفادة من هذه الوثائق في سبيل إصلاح القطاع الأمني في مرحلة ما بعد الأسد، وتفكيك هذه البنية القمعية، وبناء أجهزة أمنية خاضعة للمساءلة، وقائمة على المهنية، لا الولاء الطائفي والمناطقي.
نقطة مهمة جدّاً في سورية الجديدة هي توثيق التاريخ والذاكرة الجماعية لنظام قمعي أمني استخباري قائم على التخويف والترهيب في سبيل تعزيز الحكم؛ إذ تمثل هذه الوثائق سجلاً تاريخيّاً لا يمكن تجاوزه في مرحلة الانتقال إلى سورية الجديدة، ويجب أن تكون في متناول السوريين، مصدراً لفهم ما حدث، ووسيلة لمنع تكراره؛ في ظل الحديث عن الحاجة إلى إنشاء آليات للعدالة الانتقالية، تشمل لجان تقصي الحقائق، وبرامج تعويض الضحايا، وضمانات بعدم تكرار العنف الأمني الاستخباري وضمان تعاون إقليمي فاعل.
التعذيب المنهجي موثق بتفصيل أساليب التعذيب المستخدمة، مع لوائح بأسماء الضحايا، وأسماء الضباط المنفذين،
بنية هرمية معقّدة تربط الأجهزة بشخص واحد
من بين الأسرار الكثيرة التي كشفها انهيار النظام بهذه السرعة، ووصول أرشيف أجهزته الأمنية إلى أيدي الباحثين، ظهرت بوضوح آلية العلاقة بين هذه الفروع، وتشابكاتها، ونقاط الوصل بينها، وهوامل التنافس والصدام. وتكشف الوثائق المسربة أن نظام المخابرات السوري كان مبنيّاً على تعدّدية فروع أمنية تعمل ظاهرياً بشكل مستقل، لكنها في الواقع تخضع لقيادة مركزية ترتبط مباشرة بالقصر الجمهوري. تتوزّع بنية الأجهزة الأمنية السورية على أربع مؤسسات رئيسية: المخابرات العسكرية التي تعد الأكثر نفوذاً وتضم فروعاً مخصّصة للتيارات الفلسطينية والإسلامية، أهمها فرع فلسطين وفرع الجبهة (فرع سعسع)؛ والمخابرات الجوية، وهي جهاز سرّي فعال في القمع والتنسيق الميداني بين الفروع الأخرى ومسؤول عن أمن القيادات من الصف الأول وتنسيق عمليات الأمن والسلامة خلال مغادرتهم الأراضي السورية خوفاً من الاغتيالات، ولعبت روسيا من خلال قاعدة المخابرات الجوية في مطار المزّة العسكري دوراً مهماً في ترتيب مهام القمع والتجسس وتدريب العناصر على أجهزة تجسّس حديثة، مع أن هذا الفرع شارك في عمليات التصفية والقمع بشراسة منقطعة النظير، لا سيما في مناطق داريا والمعضمية وجديدة عرطوز الفضل؛ والمخابرات العامة التي تعنى بمراقبة الأنشطة السياسية والإعلامية والدينية، وتشرف على عمليات التجسس الداخلي وتشرف على عمل وزارة الاتصالات والمعلومات وشركات الاتصالات (سيرياتل و MTN)؛ والأمن السياسي الذي يتخصّص في مراقبة المجتمع المدني، وقد تغلغل في تفاصيل الحياة اليومية بشكل يكاد لا يُضاهى في أي نظام أمني آخر في المنطقة مكلفاً بمتابعة النشاطات الحزبية والشخصيات العامة، وملفات المعارضة التقليدية (اليسارية، القومية، الإسلامية)... وتشير التقديرات إلى أن عدد العاملين في هذه الأجهزة يتجاوز 120 ألف عنصر، غالبيتهم الساحقة تنتمي إلى الطائفة العلوية، ما أضفى على المنظومة بعداً طائفيّاً عزّز عزلة النظام عن شرائح واسعة من المجتمع السوري. وتشير الوثائق المسربة إلى أن هذه الأجهزة كانت تتنافس فيما بينها للحصول على المعلومات والنفوذ، ما أدّى إلى تداخل في المهام وازدواجية في العمل، على الرغم من التنسيق الفعلي بينها، لا سيما في ملفات الاعتقال والمطلوبين الأمنيين. نفذ فرع سعسع (221 أمن عسكري) عام 2013 عملية اعتقال لمجموعة مطلوبين من منطقة خان الشيح في ريف دمشق لغربي، وهو تجمّع للاجئين الفلسطينيين في سورية. وبحسب الأخبار المسرّبة، فإن هذه العملية كانت نتيجة رصد ومتابعة من "مُخبرين" تابعين للأمن العسكري، ومن ثم جرى تحويل هذه المجموعة على فرع المعلومات وسرية المداهمة 215، ومن ثم تحويلهم إلى فرع فلسطين (235 أمن عسكري) قبل أن يخرجوا من صيدنايا في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024. هذا التعاون الأمني واضح في مواضيع الاعتقال، لكن على مستوى العمليات، فالوثائق المسرّبة تظهر مركزية في القطاعات، بحيث يكون كل فرع مسؤولاً عن القطاع الأمني القريب من مجال عمله ونطاقه الجغرافي.
تظهر وثيقة مسرّبة من الفرع 216 طلب مراقبة ورصد تحركات مواطنين، وهي محوّلة من الفرع 294. تعكس هذه الوثيقة التنسيق الأمني بين الأفرع لتنفيذ عمليات الرصد والتعقب والاعتقال، ومن ثم تنسيق تحويل المطلوبين للتحقيق بالأفرع التي تختص بالتهم الموجهة إليهم. كما تظهر صورة أخرى مسرّبة تعقب لفلسطينيين-سوريين في قطاع ببيلا ويلدا الواقعتين جنوب شرق دمشق، وطلب معلومات عنهم وفق خطاب "سرّي للغاية". السرّي للغاية يعني أن هناك معلومات يجب الحصول عليها عن هؤلاء المطلوبين وبسرعة قصوى من دون معرفة من أي أفرع أمنية أخرى غير الموجهة لهم هذه الخطابات.
التعذيب المنهجي موثق بتفصيل أساليب التعذيب المستخدمة، مع لوائح بأسماء الضحايا، وأسماء الضباط المنفذين، لا سيما في فرع فلسطين وفرع الأمن السياسي وفرع الخطيب في دمشق الذي كان مسؤولاً عن منطقة دوما وحرستا وعربين، ومنطقة القصاع والعبّاسيين وشارع حلب وشارع بغداد في العاصمة دمشق. وقد كان هذا كله معروفاً للسوريين بحكم مرويات الناس الذين خرجوا من السجون أو الأفرع نتيجة عفو أو انتهاء محكومية؛ في ظل تعتيم إعلامي كامل ومطلق عن الجانب الأمني والجانب المظلم لمنظومة المخابرات السورية في الإعلام الموجّه.
