ARTICLE AD BOX
في إحدى زوايا القرن التاسع عشر، تقاطع مصيران هامان: شاب في الرابعة والعشرين، يحمل بين يديه نصوصاً إغريقية وأحلاماً فلسفية، ورجل تجاوز الخمسين، يقود الأوركسترا كما لو أنّه يقود عاصفة. كان الأول فريدريك نيتشه، والثاني ريتشارد فاغنر. وما جمع بينهما لم يكن مجرد الإعجاب، بل شغف متّقد بلغة الفن وبفلسفة الألم، وبالسؤال القديم: كيف يمكن للفن أن ينقذ الإنسان من العدم؟
هذا اللقاء العاصف بين الفلسفة والموسيقى هو ما يرصده بدقة الباحث لويس إنريكي دي سانتياغو غيرفوس في كتاب "ريتشارد فاغنر وفريديريك نيتشه: مراسلات"، إذ يستعرض بتأنٍّ العلاقة المركبة بين اثنين من أكثر الشخصيات الفكرية تأثيراً في الفكر الغربي الحديث، كاشفاً من خلال المراسلات عن خيوط الإعجاب والخيانة، والصداقة والانفصال، والفن والأيديولوجيا.
لم يكن نيتشه، في بداياته، ذلك الفيلسوف الثائر الذي يطرق المقولات بالمطرقة، بل كان فتى لغوياً رقيق الحس، مفتوناً بجمال النصوص القديمة. وعندما التقى بفاغنر، وجد فيه شيئاً يشبه نداءً داخلياً: إعادة بعث التراجيديا اليونانية عبر موسيقى معاصرة، تغوص في اللاوعي وتحرّك القوى الديونيسية الكامنة في النفس.
في هذا السياق، يشير الكتاب إلى كيف رأى نيتشه في موسيقى فاغنر تجسيداً حيّاً لفلسفة شوبنهاور، إذ تنبع الموسيقى من "الإرادة العمياء" للحياة، متجاوزة التمثيل العقلي والتقليد الفنيّ. كانت الأوبرا بالنسبة لنيتشه بداية مشروع كبير، مشروع الفن بوصفه خلاصاً روحياً من الانحطاط الثقافي الغربي، الذي رأى فيه صاحب "هكذا تكلّم زرادشت" حالة جماعية من الإنكار والركود.
محاولة للإجابة عن سؤال: كيف يمكن للفن أن ينقذ الإنسان؟
غير أن علاقة الصداقة لم تدم طويلاً، فسرعان ما بدأ نيتشه يلحظ أن ما يعتبره مشروعاً للتحرّر، كان بالنسبة لفاغنر ديناً جديداً يتطلّب الإذعان. ومع مرور السنوات، ازدادت الهوة بين الفيلسوف الذي يبحث عن المعنى، والموسيقار الذي يبحث عن المجد. في بايرويت، حيث شيّد فاغنر معبداً لأعماله، رأى نيتشه ذلك تكريساً لعبادة الذات أكثر مما هو إخلاص للفن.
هنا ينقلب الإعجاب إلى نقد، بل إلى حرب صامتة. يُصدر نيتشه "إنسان مفرط في إنسانيته"، ثم "غروب الأصنام"، وفي النهاية "نيتشه ضدّ فاغنر"، إذ يكشف عن خيبته الكبرى من الرجل الذي أحبّه كما يُحب التلميذ معلمه، يصفه بـ"المنوّم المغناطيسي"، وتبنيه للنزعة القومية، وعودته إلى الرموز المسيحية في أوبراه الأخيرة بارسيفال.
ما يميز كتاب لويس إنريكي دي سانتياغو غيرفوس، هو أنه لا يكتفي بسرد الوقائع، بل يغوص في عمق النفس البشرية، في دوافع التعلّق والانفصال، وفي الكيفية التي تتحوّل فيها الصداقة الفكرية إلى مواجهة شخصية. يعتمد على ما تبقى من المراسلات (بعد أن أتلفتها كوزيما فاغنر لاحقاً)، ويقارن بين نصوص نيتشه المختلفة، مظهراً كيف كان فاغنر، رغم الانفصال، يسكن كل صفحة من صفحات نيتشه.
الكتاب ليس مجرد دراسة تاريخية، بل تأمل في معنى الصداقة بين المفكرين، في الخط الفاصل بين الإعجاب والاستقلال، بين التلميذ والمعلم. وهو أيضاً تحليل دقيق لكيف يمكن للفن أن يكون خلاصاً كما يمكن أن يكون قيداً.
بهذه العبارة الشهيرة، لخّص نيتشه تقديره العميق للموسيقى، رغم كل جراحه منها. وربما بهذا المعنى، يمكن القول إنّ كتاب "نيتشه ومشكلة فاغنر" هو سردية عن الحياة كما عاشها نيتشه: عبر حب مفرط، وصراع داخلي، وتحطيم متأخر للأصنام.
